حَدَّثَنَا الْرَّبِيْعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، بِإِسْنَادٍ لَا يَحْضُرُنِي ذِكْرُهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا» ، وَفِي الْحَدِيثِ بِقِلِالِ هَجَرَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَدْ رَأَيْتُ قَلَائِلَ هَجَرَ، فَالْقُلَّةُ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ أَوْ قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقِرَبُ الْحِجَازِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا الْكِبَارُ لِعِزِّ الْمَاءِ بِهَا، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ خَمْسَ قِرَبٍ كِبَارٍ لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا، وَذَلِكَ قُلَّتَانِ بِقِلَالِ هَجَرَ، وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ: «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا» ، دِلَالَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّ مَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا؛ لِأَنَّ الْقُلَّتَيْنِ إِذَا تَنَجَّسَا لَمْ يَنْجُسْ أَكْثَرُ مِنْهُمَا، وَهَذَا يُوَافِقُ جُمْلَةَ حَدِيثِ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَالدِّلَالَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ قُلَّتَيْنِ حَمَلَ النَّجَاسَةَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِذَا كَانَ الْمَاءُ كَذَا لَمْ يَحْمِلِ النَّجَاسَةَ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَا حَمَلَ النَّجَاسَةَ، وَمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ مُوَافِقٌ جُمْلَةَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنْ يُغْسَلَ الْإِنَاءُ مِنْ شُرْبِ الْكَلْبِ فِيهِ، وَآنِيَةُ الْقَوْمِ أَوْ أَكْثَرُ آنِيَةِ النَّاسِ الْيَوْمَ صِغَارٌ، لَا تَسَعُ بَعْضَ قِرْبَةٍ، فَأَمَّا حَدِيثُ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلْ فِيهِ» ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ يُخَالِفُ حَدِيثَ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَلَا: «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا» ، وَلَا: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ يَعْنِي بِهِ الْمَاءَ الدَّائِمَ الَّذِي يَحْمِلُ النَّجَاسَةَ فَهُوَ مِثْلُ حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنْ كَانَ يَعْنِي بِهِ كُلَّ مَاءٍ دَائِمٍ دَلَّتِ السُّنَّةُ فِي حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ وَحَدِيثِ بِئْرِ بُضَاعَةَ، عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي كُلِّ مَاءٍ دَائِمٍ، يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الِاخْتِيَارِ لَا عَلَى الْبَوْلِ -[612]- يُنَجِّسُهُ، كَمَا يَنْهَى الرَّجُلَ أَنْ يَتَغَوَّطَ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ، وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يَأْوِي إِلَيْهَا النَّاسُ؛ لِمَا يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ مَمْنُوعَةٌ، وَلَا أَنَّ التَّغَوُّطَ مُحَرَّمٌ، وَلَكِنْ مَنْ رَأَى رَجُلًا يَبُولُ فِي مَاءٍ نَاقِعٍ قَذَرَ الشُّرْبَ مِنْهُ، وَالْوُضُوءَ بِهِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنْ جَعَلْتَ حَدِيثَ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ يُضَادُّ حَدِيثَ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَحَدِيثَ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، وَجَعَلْتَهُ عَلَى أَنَّ الْبَوْلَ يُنَجِّسُ كُلَّ مَاءٍ دَائِمٍ. قِيلَ: فَعَلَيْكَ حُجَّةٌ أُخْرَى مَعَ الْحُجَّةِ بِمَا وَصَفْتُ، فَإِنْ قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قِيلَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا بَالَ فِي الْبَحْرِ، أَيُنَجِّسُ بَوْلُهُ مَاءَ الْبَحْرِ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا، قِيلَ: مَاءُ الْبَحْرِ مَاءٌ دَائِمٌ، وَقِيلَ لَهُ: أَفَتُنَجَّسُ الْمَصَانِعُ الْكِبَارُ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا، قِيلَ: فَهِيَ مَاءٌ دَائِمٌ، وَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، دَخَلَ عَلَيْهِ مَاءُ الْبَحْرِ، فَإِنْ قَالَ: وَمَاءُ الْبَحْرِ يَنْجُسُ، فَقَدْ خَالَفَ قَوْلَ الْعَامَّةِ مَعَ خِلَافِهِ السُّنَّةَ، وَإِنْ قَالَ: لَا، هَذَا كَثِيرٌ، قِيلَ لَهُ: فَقُلْ: إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ مَا شِئْتَ لَمْ يَنْجُسْ، فَإِنْ حَدَّدْتَهُ بِأَقَلَّ مَا يَخْرُجُ مِنَ النَّجَاسَةِ، قِيلَ لَكَ: فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ بِقَدَحِ مَاءٍ، فَإِنْ قُلْتَ: يَنْجُسُ، قِيلَ: فَيُعْقَلُ أَبَدًا أَنْ يَكُونَ مَا أَنْ تُخَالِطَهُمَا نَجَاسَةٌ وَاحِدَةٌ لَا تُغَيِّرُ مِنْهُمَا شَيْئًا، يَنْجُسُ أَحَدُهُمَا وَلَا يَنْجُسُ الْآخَرُ، إِلَّا بِخَبَرٍ لَازِمٍ، تَعَبَّدَ الْعِبَادُ بِاتِّبِاعِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِخَبَرٍ عَنِ النَّبِيِّ، وَالْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ بِمَا وَصَفْتُ مِنْ أَنْ يَنْجُسَ مَا دُونَ خَمْسِ قِرَبٍ، وَلَا يَنْجُسَ خَمْسُ قِرَبٍ فَمَا فَوْقَهَا، فَأَمَّا شَيْءٌ سِوَى مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ أَنْ يَنْجُسَ مَاءٌ وَلَا يَنْجُسُ آخَرُ، وَهُمَا لَمْ يَتَغَيَّرَا، إِلَّا أَنْ يُجْمِعَ النَّاسُ فَلَا يَخْتَلِفُونَ، فَنَتَّبِعَ إِجْمَاعَهُمْ، وَإِذَا تَغَيَّرَ طَعْمُ الْمَاءِ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ بِمُحَرَّمٍ يُخَالِطُهُ لَمْ يَطْهُرِ الْمَاءُ أَبَدًا حَتَّى يُنْزَحَ، أَوْ يُصَبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ كَثِيرٌ، حَتَّى يَذْهَبَ مِنْهُ طَعْمُ الْمُحَرَّمِ وَلَوْنُهُ وَرِيحُهُ، فَإِذَا ذَهَبَ فَعَادَ بِحَالِهِ الَّتِي جَعَلَهُ اللَّهُ بِهَا طَهُورًا، ذَهَبَتْ نَجَاسَتُهُ، وَمَا قُلْتَ مِنْ أَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَ طَعْمُ الْمَاءِ أَوْ رِيحُهُ أَوْ لَوْنُهُ كَانَ نَجِسًا، يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهٍ لَا يُثْبِتُ مِثْلَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُ الْعَامَّةِ، لَا أَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَمَعْقُولٌ أَنَّ الْحَرَامَ إِذَا كَانَ جُزْأٌ فِي الْمَاءِ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ، كَانَ الْمَاءُ نَجِسًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَرَامَ إِذَا مَاسَ الْجَسَدَ فَعَلَيْهِ غَسْلُهُ، فَإِذَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُهُ بِوُجُودِهِ فِي الْجَسَدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي الْمَاءِ، فَيَكُونُ الْمَاءُ طَهُورًا وَالْحَرَامُ قَائِمٌ مَوْجُودٌ فِيهِ، وَكُلُّ مَا وَصَفْتُ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، وَهُوَ الرَّاكِدُ. فَأَمَّا الْجَارِي فَإِذَا خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ فَجَرَى فَالْآتِي بَعْدَمَا لَمْ تُخَالِطْهُ النَّجَاسَةُ فَهُوَ لَا يَنْجُسُ، وَإِذَا تَغَيَّرَ طَعْمُ الْمَاءِ أَوْ رِيحُهُ أَوْ لَوْنُهُ، أَوْ جَمِيعُ ذَلِكَ، بِلَا نَجَاسَةٍ خَالَطَتْهُ لَمْ يَنْجُسْ، إِنَّمَا يَنْجُسُ بِالْمُحَرَّمِ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُحَرَّمِ فَلَا يَنْجُسُ بِهِ، وَمَا وَصَفْتُ مِنْ هَذَا فِي كُلِّ مَا لَمْ يُصَبَّ عَلَى النَّجَاسَةِ يُرِيدُ إِزَالَتَهَا، فَإِذَا صُبَّ عَلَى نَجَاسَةٍ يُرِيدُ إِزَالَتَهَا فَحُكْمُهُ غَيْرُ مَا وَصَفْتُ اسْتِدْلَالًا بِالسُّنَّةِ، وَمَا لَمْ أَعْلَمْ فِيهِ مُخَالِفًا، وَإِذَا أَصَابَتِ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ النَّجَاسَةُ، فَصُبَّ عَلَيْهَا الْمَاءُ ثَلَاثًا، وَدُلِّكَتْ بِالْمَاءِ طَهُرَ، وَإِنْ كَانَ مَا صُبَّ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ قَلِيلًا فَلَا يَنْجُسُ الْمَاءُ بِمُمَاسَّةِ النَّجَاسَةِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ إِزَالَتُهَا عَنِ الثَّوْبِ؛ لِأَنْ لَوْ نَجُسَ بِمُمَاسَّتِهَا بِهَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَطْهُرْ، وَكَانَ إِذَا غُسِلَ الْغَسْلَةَ الْأُولَى نَجُسَ الْمَاءُ، ثُمَّ كَانَ فِي الْمَاءِ الثَّانِي يَمَاسُّ مَاءً نَجِسًا فَيَنْجُسُ، وَالْمَاءُ الثَّالِثُ يَمَاسُّ مَاءً نَجِسًا فَيَنْجُسُ، وَلَكِنَّهَا تَطْهُرُ بِمَا وَصَفْتُ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْمَاءِ غَيْرُ مَا قُلْتُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يُزِيلُ الْأَنْجَاسَ حَتَّى يُطَهِّرَ مِنْهَا مَا مَاسَّهُ، وَلَا نَجِدُهُ يَنْجُسُ إِلَّا فِي الْحَالِ الَّتِي أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَاءَ يَنْجُسُ فِيهَا، وَالدِّلَالَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ بِخِلَافِ حُكْمِ الْمَاءِ الْمَغْسُولِ بِهِ النَّجَاسَةُ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» ، وَهُوَ يُغْسَلُ سَبْعًا بِأَقَلَّ مِنْ قَدَحِ مَاءٍ، وَفِي أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَ بِدَمِ الْحَيْضَةِ يُقْرَصُ بِمَاءٍ قَلِيلٍ يُنْضَحُ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ: قَدْ سَمِعْتُ قَوْلَكَ فِي الْمَاءِ، فَلَوْ قُلْتَ: لَا يَنْجُسُ الْمَاءُ بِحَالٍ لِلْقِيَاسِ عَلَى مَا وَصَفْتَ أَنَّ الْمَاءَ يُزِيلُ الْأَنْجَاسَ، كَانَ قَوْلًا لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ رَدَّهُ، وَلَكِنْ زَعَمْتَ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي يُطَهَّرُ بِهِ يَنْجُسُ بَعْضُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي زَعَمْتُهُ بِالْعَرْضِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ إِلَّا طَاعَةُ اللَّهِ بِالتَّسْلِيمِ لَهُ، فَأَدْخَلَ حَدِيثَ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلْ فِيهِ» ، فَأَدْخَلْتُ عَلَيْهِ مَا وَصَفْتُ مِنْ إِجْمَاعِ النَّاسِ فِيمَا عَلِمْتُهُ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَمِنْ مَاءِ الْمَصَانِعِ الْكِبَارِ وَالْبَحْرِ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِيهِ حُجَّةٌ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقُلْتُ لَهُ: مَا عَلِمْتُكُمُ اتَّبَعْتُمْ فِي الْمَاءِ سُنَّةً، وَلَا إِجْمَاعًا، وَلَا قِيَاسًا، وَلَقَدْ -[613]- قُلْتُمْ فِيهِ أَقَاوِيلَ لَعَلَّهُ لَوْ قِيلَ لِعَاقِلٍ: تَخَاطَأْ، فَقَالَ مَا قُلْتُمْ، لَكَانَ قَدْ أَحْسَنَ التَّخَاطُؤَ، ثُمَّ ذَكَرْتُ فِيهِ الْحُجَجَ بِمَا ذَكَرْتُ مِنَ السُّنَّةِ، وَقُلْتُ لَهُ: أَفِي أَحَدٍ مَعَ النَّبِيِّ حُجَّةٌ؟ فَقَالَ: لَا، وَقُلْتُ: أَلَيْسَتْ تَثْبُتُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي وَصَفْتُ؟ فَقَالَ: أَمَّا حَدِيثُ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، وَحَدِيثُ وُلُوغِ الْكَلْبِ فِي الْمَاءِ، وَحَدِيثُ مُوسَى بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، فَتَثْبُتُ بِإِسْنَادِهَا، وَحَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ، فَيُثْبُتُ بِشُهْرَتِهِ وَأَنَّهُ مَعْرُوفٌ، فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ خَالَفْتَهَا كُلَّهَا، وَقُلْتَ قَوْلًا اخْتَرَعْتَهُ مُخَالِفًا لِلْأَخْبَارِ، خَارِجًا مِنَ الْقِيَاسِ، فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ قُلْتُ: اذْكُرِ الْقَدْرَ الَّذِي إِذَا بَلَغَهُ الْمَاءُ الرَّاكِدُ لَمْ يَنْجُسْ، وَإِذَا نَقَصَ مِنْهُ الْمَاءُ الرَّاكِدُ يَنْجُسُ، قَالَ: الَّذِي إِذَا حُرِّكَ أَدْنَاهُ لَمْ يَضْطَرِبْ أَقْصَاهُ، فَقُلْتُ: أَقُلْتَ هَذَا خَبَرًا؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَقِيَاسًا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ مَعْقُولٌ أَنَّهُ يَخْتَلِطُ بِتَحْرِيكِ الْآدَمَيِّينَ وَلَا يَخْتَلِطُ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ حَرَّكْتَهُ بِالرِّيحِ فَاخْتَلَطَ؟ قَالَ: إِنْ قُلْتُ: إِنَّهُ يَنْجُسُ إِذَا اخْتَلَطَ، مَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: أَقُولُ: أَرَأَيْتَ رِجْلًا مِنَ الْبَحْرِ تَضْطَرِبُ أَمْوَاجُهَا فَتَأْتِي مِنْ أَقْصَاهَا إِلَى أَنْ تُفِيضَ عَلَى السَّاحِلِ هَاجَتِ الرِّيحُ أَتَخْلِطُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: أَفَتَنْجُسُ ذَلِكَ الرِّجْلُ مِنَ الْبَحْرِ؟ قَالَ: لَا، وَلَوْ قُلْتُ: تَنْجُسُ، تَفَاحَشَ عَلَيَّ، قُلْتُ: فَمَنْ كَلَّفَكَ قَوْلًا يُخَالِفُ السُّنَّةَ وَالْقِيَاسَ، وَيَتَفَاحَشُ عَلَيْكَ، فَلَا تَقُومُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، قُلْتُ: فَيُقَالُ لَكَ: أَيَجُوزُ فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ مَاءَانْ خَالَطَتْهُمَا نَجَاسَةٌ لَمْ تُغَيِّرْ شَيْئًا، لَا يَنْجُسُ أَحَدُهُمَا وَيَنْجُسُ الْآخَرُ إِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ بِقَدَحٍ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: وَلَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ لَا يَنْجُسَ شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ إِلَّا بِأَنْ يَتَغَيَّرَ بِحَرَامٍ خَالَطَهُ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ الْأَنْجَاسَ، أَوْ يَنْجُسُ كُلُّهُ بِكُلِّ مَا خَالَطَهُ، قَالَ: مَا يَسْتَقِيمُ فِي الْقِيَاسِ إِلَّا هَذَا، وَلَكِنْ لَا قِيَاسَ مَعَ خِلَافِ خَبَرٍ لَازِمٍ، قُلْتُ: فَقَدْ خَالَفْتَ الْخَبَرَ اللَّازِمَ وَلَمْ تَقُلْ مَعْقُولًا، وَلَمْ تَقِسْ، وَزَعَمَتَ أَنَّ فَأْرَةً لَوْ وَقَعَتْ فِي بِئْرٍ فَمَاتَتْ نُزِحَ مِنْهَا عِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثُونَ دَلْوًا، ثُمَّ طَهُرَتِ الْبِئْرُ، فَإِنْ طُرِحَتْ تِلْكَ الْعِشْرُونَ أَوِ الثَّلَاثُونَ دَلْوًا فِي بِئْرٍ أُخْرَى لَمْ يُنْزَحْ مِنْهَا إِلَّا عِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثُونَ دَلْوًا، وَإِنْ كَانَ مَيْتَةً أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ نُزِحَ مِنْهَا أَرْبَعُونَ أَوْ سِتُّونَ دَلْوًا، فَمَنْ وَقَّتَ لَكَ هَذَا فِي الْمَاءِ الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّرْ بِطَعْمٍ حَرَامٍ، وَلَا لَوْنُهُ، وَلَا رِيحُهُ، أَنْ يَنْجُسَ بَعْضُ الْمَاءِ دُونَ بَعْضٍ، أَيَنْجُسُ بَعْضُهُ أَمْ يَنْجُسُ كُلُّهُ؟ قَالَ: بَلْ يَنْجُسُ كُلُّهُ، فَقُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ شَيْئًا قَطُّ يَنْجُسُ كُلُّهُ، فَيُخْرَجُ بَعْضُهُ فَتَذْهَبُ النَّجَاسَةُ مِنَ الْبَاقِي مِنْهُ، أَتَقُولُ هَذَا فِي سَمْنٍ ذَائِبٍ أَوْ غَيْرِهِ؟ قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِقِيَاسٍ، وَلَكِنَّا اتَّبَعْنَا فِيهِ الْأَثَرَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَحْمَةُ اللَّهُ عَلَيْهِمَا، قُلْتُ: أَفَتُخَالِفُ مَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِ غَيْرِهِ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَقَدْ فَعَلْتَ وَخَالَفْتَ مَعَ ذَلِكَ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ، زَعَمْتَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: إِذَا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ فِي بِئْرٍ نُزِحَ مِنْهَا سَبْعَةُ أَوْ خَمْسَةُ دِلَاءٍ، وَزَعَمْتَ أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ إِلَّا بِعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ، وَزَعَمْتَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ نَزَحَ زَمْزَمَ مِنْ زِنْجِيٍّ وَقَعَ فِيهَا، وَأَنْتَ تَقُولُ: يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ أَوْ سِتُّونَ دَلْوًا، قَالَ: فَلَعَلَّ الْبِئْرَ تَغَيَّرَتْ بِدَمٍ، قُلْتُ: فَنَحْنُ نَقُولُ: إِذَا تَغَيَّرَتْ بِدَمٍ لَا تَطْهُرُ أَبَدًا حَتَّى لَا يُوجَدَ فِيهَا طَعْمُ دَمٍ، وَلَا لَوْنُهُ، وَلَا رِيحُهُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي زَمْزَمَ، وَلَا فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مَاءً مِنْهَا وَأَوْسَعُ، حَتَّى يُنْزَحَ، فَلَيْسَ لَكَ فِي هَذَا شَيْءٌ، وَهَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَقَدْ خَالَفْتَهُمَا لَوْ كَانَ ثَابِتًا، وَزَعَمْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ جُنُبًا فَدَخَلَ فِي بِئْرٍ يَنْوِي الْغُسْلَ مِنَ الْجَنَابَةِ نَجُسَ الْبِئْرُ وَلَمْ يَطْهُرْ، ثُمَّ هَكَذَا إِنْ دَخَلَ ثَانِيَةً، ثُمَّ يَطْهُرُ الثَّالِثَةَ، فَإِذَا كَانَ يَنْجُسُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَنْجُسُ ثَانِيَةً، وَكَانَ نَجِسًا قَبْلَ دُخُولِهِ أَوَّلًا وَلَمْ يَطْهُرْ بِهَا، وَلَا ثَانِيَةً، أَلَيْسَ قَدِ ازْدَادَ فِي قَوْلِكَ نَجَاسَةً؟ فَإِنَّهُ كَانَ نَجِسًا بِالْجَنَابَةِ، ثُمَّ زَادَ نَجَاسَةً بِمُمَاسَّةِ الْمَاءِ النَّجِسِ، فَكَيْفَ يَطْهُرُ بِالثَّالِثَةِ وَلَمْ يَطْهُرْ بِالثَّانِيَةِ قَبْلَهَا، وَلَا بِالْأُولَى قَبْلَ الثَّانِيَةِ؟ قَالَ: إِنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَطْهُرُ أَبَدًا، قُلْتُ: وَذَلِكَ يَلْزَمُكَ؟ قَالَ: يَتَفَاحَشُ، وَيَتَفَاحَشُ، وَيَخْرُجُ مِنْ أَقَاوِيلِ النَّاسِ، قُلْتُ: فَمَنْ كَلَّفَكَ خِلَافَ السُّنَّةِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْ أَقَاوِيلِ النَّاسِ؟ وَقُلْتُ لَهُ: وَزَعَمْتَ أَنَّكَ إِنْ أَدْخَلْتَ يَدَكَ فِي بِئْرٍ تَنْوِي بِهَا أَنْ تُوَضِّئَهَا نَجُسَتِ الْبِئْرُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ تُوُضِّئَ بِهِ، وَلَا تَطْهُرُ حَتَّى تُنْزَحَ كُلُّهَا، وَإِذَا سَقَطَتْ فِيهَا مَيْتَةٌ طَهُرَتْ بِعِشْرِينَ دَلْوًا أَوْ ثَلَاثِينَ دَلْوًا، فَزَعَمْتَ أَنَّ الْبِئْرَ بِدُخُولِ الْيَدِ الَّتِي لَا نَجَاسَةَ فِيهَا تَنْجُسُ كُلُّهَا فَلَا تَطْهُرُ أَبَدًا، وَأَنَّهَا تَطْهُرُ مِنَ الْمَيْتَةِ بِعِشْرِينَ دَلْوًا أَوْ ثَلَاثِينَ، هَلْ رَأَيْتَ أَحَدًا قَطُّ زَعَمَ أَنَّ يَدَ مُسْلِمٍ تُنَجِّسُ أَكْثَرَ مِمَّا تُنَجِّسُهُ الْمَيْتَةُ؟ وَزَعَمْتَ أَنَّهُ إِنْ أَدْخَلَ يَدَهُ وَلَا يَنْوِي وُضُوءًا طَهُرَتْ -[614]- يَدُهُ لِلْوُضُوءِ، وَلَمْ تَنْجُسِ الْبِئْرُ، أَوْ رَأَيْتَ أَنْ لَوْ أَلْقَى فِيهَا جِيفَةً لَا يَنْوِي تَنْجِيسَهَا أَوْ يَنْوِيهِ، أَوْ لَا يَنْوِي شَيْئًا، أَذَلِكَ سَوَاءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، النَّجَاسَةُ كُلُّهَا سَوَاءٌ، وَنِيَّتُهُ لَا تَصْنَعُ فِي الْمَاءِ شَيْئًا، قُلْتُ: وَمَا خَالَطَهُ إِمَّا طَاهِرٌ وَإِمَّا نَجِسٌ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَلِمَ زَعَمْتَ أَنَّ نِيَّتَهُ فِي الْوُضُوءِ تُنَجِّسُ الْمَاءَ؟ إِنِّي لَأَحْسَبُكُمْ لَوْ قَالَ هَذَا غَيْرُكُمْ لَبَلَغْتُمْ بِهِ إِلَى أَنْ تَقُولُوا: الْقَلَمُ عَنْهُ مَرْفُوعٌ، فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ: قَوْلُ الْحِجَازِيِّينَ فِي الْمَاءِ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِنَا، وَقَوْلُنَا فِيهِ خَطَأٌ، قُلْتُ: وَأَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ هَذَا فِيهِ؟ قَالَ: قَدْ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ فِيهِ إِلَى قَوْلِكُمْ نَحْوًا مِنْ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ قَوْلِكُمْ، قُلْتُ: وَمَا زَادَ رُجُوعُهُ إِلَى قَوْلِنَا قُوَّةً، وَلَا وَهَّنَهُ رُجُوعُهُ عَنْهُ، وَمَا فِيهِ مَعْنًى إِلَّا أَنَّكَ تَرْوِي عَنْهُ مَا تَقُومُ عَلَيْهِ بِهِ الْحُجَّةُ مِنْ أَنْ يُقِيمَ عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ يَرَاهُ خَطَأً، قُلْتُ لَهُ: زَعَمْتَ أَنَّ رَجُلًا إِنْ وَضَّأَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ لِصَلَاةٍ، وَلَا نَجَاسَةَ عَلَى وَجْهِهِ وَلَا يَدَيْهِ، فِي طَسْتٍ نَظِيفٍ، فَإِنْ أَصَابَ الْمَاءُ الَّذِي فِي ذَلِكَ الطِّسْتِ ثَوْبَهُ لَمْ يُنَجِّسْهُ، وَإِنْ صُبَّ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يُنَجِّسْهَا، وَيُصَلِّي عَلَيْهَا رَطْبَةً كَمَا هِيَ، ثُمَّ إِنْ صُبَّ فِي بِئْرٍ نَجَّسَ الْبِئْرَ كُلَّهَا، وَلَمْ تَطْهُرْ أَبَدًا إِلَّا بِأَنْ يُنْزَحَ مَاؤُهَا كُلُّهُ، وَلَوْ أَنَّ قَدْرَ الْمَاءِ الَّذِي وَضَّأَ بِهِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ كَانَ فِي إِنَاءٍ فَوَقَعَتْ فِيهِ مَيْتَةٌ نَجَّسَتْهُ، وَإِنْ مَسَّ ثَوْبًا نَجَّسَهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ غَسْلُهُ، وَإِنْ صُبَّ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهَا رَطْبَةً، وَإِنْ صُبَّ فِي بِئْرٍ طَهُرَتِ الْبِئْرُ بِأَنْ يُنْزَحَ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا، أَوْ ثَلَاثُونَ دَلْوًا، أَزَعَمْتَ أَنَّ الْمَاءَ الطَّاهِرَ أَكْثَرُ نَجَاسَةً مِنَ الْمَاءِ النَّجِسِ؟ قَالَ: فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ قَوْلَكُمْ فِي الْمَاءِ قُلْتُ: أَفَتَرْجِعُ إِلَى الْحَسَنِ، فَمَا عَلِمْتُهُ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَلَا غَيْرُهُ مِمَّنْ تَرَأَّسَ مِنْهُمْ، بَلْ عَلِمْتُ مَنِ ازْدَادَ مِنْ قَوْلِنَا فِي الْمَاءِ بُعْدًا فَقَالَ: إِذَا وَقَعَتْ فَأْرَةٌ فِي بِئْرٍ لَمْ تَطْهُرْ أَبَدًا إِلَّا بِأَنْ يُحْفَرَ تَحْتَهَا بِئْرٌ، فَيُفَرَّغَ مَاؤُهَا فِيهَا، وَيُنْقَلَ طِينُهَا، وَيُنْزَعَ بِنَاؤُهَا، وَتُغْسَلَ مَرَّاتٍ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِمَنْ قَالَ قَوْلَهُمْ هَذَا، وَفِي هَذَا مِنْ خِلَافِ السُّنَّةِ وَقَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ مَا لَا يَجْهَلُهُ عَالِمٌ، وَقَدْ خَالَفَنَا بَعْضُ أَهْلِ نَاحِيَتِنَا فَذَهَبَ إِلَى بَعْضِ قَوْلِهِمْ فِي الْمَاءِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، وَخَالَفَنَا بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ: لَا يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنَ الْكَلْبِ سَبْعًا، وَيَكْفِي فِيهِ دُونَ سَبْعٍ، فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ بِثُبُوتِ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَوَافَقَنَا بَعْضُ أَهْلِ نَاحِيَتِنَا فِي غَسْلِ الْإِنَاءِ إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ، وَأَنْ يُهَرَاقَ الْمَاءُ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: إِنْ وَلَغَ الْكَلْبُ بِالْبَادِيَةِ فِي اللَّبَنِ شُرِبَ اللَّبَنُ وَأُكِلَ، وَغُسِلَ الْإِنَاءُ؛ لِأَنَّ الْكِلَابَ لَمْ تَزَلْ بِالْبَادِيَةِ، فَشَغَلَنَا الْعَجَبُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ عَمَّا وَصَفْتُ قَوْلَ غَيْرِهِ، أَرَأَيْتَ إِذْ زَعَمَ أَنَّ الْكَلْبَ يَلَغُ فِي اللَّبَنِ فَيَنْجُسُ الْإِنَاءُ بِمُمَاسَّةِ اللَّبَنِ الَّذِي مَاسَّهُ لِسَانُ الْكَلْبِ حَتَّى يُغْسَلَ، فَكَيْفَ لَا يَنْجُسُ اللَّبَنُ؟ وَإِذَا نَجُسَ اللَّبَنُ، فَكَيْفَ يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا يَنْجُسُ اللَّبَنُ، فَكَيْفَ يَنْجُسُ الْإِنَاءُ بِمُمَاسَّةِ اللَّبَنِ، وَاللَّبَنُ غَيْرُ نَجِسٍ؟ أَوَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: مَا زَالَتِ الْكِلَابُ بِالْبَادِيَةِ، فَمَنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ بِالْبَادِيَةِ لَا تُنَجِّسُ، وَإِذَا كَانَتْ بِالْقَرْيَةِ نَجَّسَتْ، أَتَرَى أَنَّ الْبَادِيَةَ تُطَهِّرُهَا، أَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ الْفَأْرُ وَالْوِزْغَانُ بِالْقَرْيَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْكِلَابِ بِالْبَادِيَةِ، وَأَقْدَمَ مِنْهَا، أَوْ فِي مِثْلِ قِدَمِهَا، أَوْ أَحْرَى أَنْ لَا يُمْتَنَعَ مِنْهَا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا وَقَعَتْ فَأْرَةٌ، أَوْ وَزَغٌ، أَوْ بَعْضُ دَوَابِّ الْبُيُوتِ فِي سَمْنٍ، أَوْ لَبَنٍ، أَوْ مَاءٍ قَلِيلٍ، أَيُنَجِّسُهُ؟ قَالَ: فَإِنْ قَالَ: لَا يُنَجِّسُهُ فِي الْقَرْيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَمُوتَ فِي بَعْضِ آنِيَتِهِمْ، وَيُنَجِّسُهُ فِي الْبَادِيَةِ، فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ قَوْلَيْهِ وَزَادَ فِي الْخَطَأِ، وَإِنْ قَالَ: يُنَجِّسُهُ، قِيلَ: فَكَيْفَ لَمْ يَقُلْ هَذَا فِي الْكَلْبِ فِي الْبَادِيَةِ، وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ يَضْبِطُونَ أَوْعِيَتَهُمْ مِنَ الْكِلَابِ ضَبْطًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْقَرْيَةِ مِنَ الْفَأْرَةِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُمْ يُوكِئُونَ عَلَى أَلْبَانِهِمُ الْقِرَبَ، وَيَقِلُّ حَبْسُهُ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُمْ، وَلَا يُبْقُونَهُ مِمَّا لَا يُدَّخَرُ، وَيَكْفَئُونَ عَلَيْهِ الْآنِيَةَ، وَيَزْجُرُونَ الْكِلَابَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَيَضْرِبُونَهَا فَتَنْزَجِرَ، وَلَا يُسْتَطَاعُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي الْفَأْرَةِ وَلَا دَوَابِّ الْبُيُوتِ بِحَالٍ، وَأَهْلُ الْبُيُوتِ يَدَّخِرُونَ إِدَامَهُمْ وَأَطْعِمَتَهُمْ لِلسَنَةِ وَأَكْثَرَ، فَكَيْفَ قَالَ هَذَا فِي أَهْلِ الْبَادِيَةِ دُونَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ؟ وَكَيْفَ جَازَ لِمَنْ قَالَ مَا أَحْكِي أَنْ يَعِيبَ أَحَدًا بِخِلَافِهِ الْحَدِيثَ عَنِ النَّبِيِّ عَيْبًا يُجَاوِزُ فِيهِ الْقَدْرَ، وَالَّذِي عَابَهُ لَمْ يَعْدُ أَنْ رَدَّ الْأَخْبَارَ، وَلَمْ يَدَعْ مَنْ قَبُولِهَا مَا يَكْتَرِثُ بِهِ عَلَى قَائِلِهِ، أَوْ آخَرُ اسْتَتَرَ مِنْ رَدِّ الْأَخْبَارِ وَوَجَّهَهَا وُجُوهًا تَحْتَمِلُهَا، أَوْ تَشَبَّهَ بِهَا، فَعِبْنَا مَذْهَبَهُمْ وَعَابَهُ، ثُمَّ شَرَكَهُمْ فِي بَعْضِ أُمُورِهِمْ، فَرَدَّ هَذَا مِنَ الْأَخْبَارِ بِلَا وَجْهٍ -[615]- تَحْتَمِلُهُ، وَزَادَ أَنِ ادَّعَى الْأَخْبَارَ وَهُوَ يُخَالِفُهَا، وَفِي رَدِّ مَنْ تَرَكَ أَسْوَأُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ مَا لَا يُشْكِلُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ.