قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ الرَّبَعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ بَكْرِ بْنِ بَكَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ الرَّبَعِيُّ مَوْلَى قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " لَمَّا ظَفِرَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ بِالْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَتَيْنِ، أَتَاهُ وُفُودُ الْعَرَبِ وَأَشْرَافُهَا وَشُعَرَاؤُهَا لِتُهَنِّئَهُ وَتَمْدَحَهُ، وَتَذْكُرَ مَا كَانَ مِنْ بَلَائِهِ وَطَلَبِهِ بِثَأْرِ قَوْمِهِ، فَأَتَاهُ وَفْدُ قُرَيْشٍ وَفِيهِمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ، وَخُوَيْلِدُ بْنُ أَسَدٍ، فِي نَاسٍ مِنْ وُجُوهِ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَأَتَوْهُ بِصَنْعَاءَ وَهُوَ فِي قَصْرٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ غُمْدَانُ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الشَّاعِرُ أَبُو الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ أَبُو أُمَيَّةَ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
[البحر البسيط]
لَا تَطْلُبِ الثَّأْرَ إِلَّا كَابْنِ ذِي يَزَنٍ ... خَيَّمَ فِي الْبَحْرِ لِلْأَعْدَاءِ أَحْوَالَا
-[150]-
أَتَى هِرَقْلًا وَقَدْ شَالَتْ نَعَامَتُهُمْ ... فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ النَّصْرَ الَّذِي سَالَا
ثُمَّ انْتَحَى نَحْوَ كِسْرَى بَعْدَ عَاشِرَةٍ ... مِنَ السِّنِينَ يُهِينُ النَّفْسَ وَالْمَالَا
حَتَّى أَتَى بِبَنِي الْأَحْرَارِ يَقْدُمُهُمْ ... تَخَالُهُمْ فَوْقَ مَتْنِ الْأَرْضِ أَجْبَالَا
بِيضٌ مَرَازِبَةٌ غُلْبٌ أَسَاوِرَةٌ أُسْدٌ ... يُرَبِّينَ فِي الْغَيْضَاتِ أَشْبَالَا
لِلَّهِ دَرُّهُمُ مِنْ فِتْيَةٍ صُبُرٍ ... مَا إِنْ رَأَيْتُ لَهُمْ فِي النَّاسِ أَمْثَالَا
لَا يَضْجَرُونَ وَإِنْ حُزَّتْ مَغَافِرُهُمْ ... وَلَا نَرَى مِنْهُمُ فِي الطَّعْنِ مَيَّالَا
أَرْسَلْتَ أُسْدًا عَلَى سُودِ الْكِلَابِ فَقَدْ ... أَضْحَى شَرِيدُهُمُ فِي النَّاسِ فَلَّالَا
فَاشْرَبْ هَنِيئًا عَلَيْكَ التَّاجُ مُرْتَفِعًا ... فِي رَأْسِ غُمْدَانَ دَارًا مِنْكَ مِحْلَالَا
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قُعْبَانَ مِنْ لَبَنٍ ... شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالَا
فَالْتَطَّ بِالْمِسْكِ إِذْ شَالَتْ نَعَامَتُهُمْ ... وَأَسْبِلِ الْيَوْمَ فِي بُرْدَيْكَ إِسْبَالَا
فَاسْتَأْذَنُوا عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُمْ، فَإِذَا الْمَلِكُ مُتَضَمِّخٌ بِالْعَنْبَرِ يَلْصُفُ، وَوَمِيضُ الْمِسْكِ مِنْ مَفْرِقِهِ إِلَى قَدَمِهِ، وَسَيْفُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ، فَدَنَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَاسْتَأْذَنَ فِي الْكَلَامِ، فَقَالَ لَهُ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ: إِنْ كُنْتَ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُلُوكِ فَقَدْ أَذِنَّا لَكَ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَحَلَّكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ مَحِلًّا رَفِيعًا -[151]-، صَعْبًا مَنِيعًا، شَامِخًا بَاذِخًا، وَأَنْبَتَكَ مَنْبَتًا طَابَتْ أَرُومَتُهُ، وَعَزَّتْ جُرْثُومَتُهُ، وَثَبَتَ أَصْلُهُ، وَبَسَقَ فَرْعُهُ، فِي أَكْرَمِ مَعْدِنٍ، وَأَطْيَبِ مَوْطِنٍ، وَأَنْتَ أَبَيْتَ اللَّعْنَ رَأْسُ الْعَرَبِ، وَرَبِيعُهَا الَّذِي تُخْصَبُ بِهِ، وَأَنْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ رَأْسُ الْعَرَبِ الَّذِي لَهُ تَنْقَادُ، وَعَمُودُهَا الَّذِي عَلَيْهِ الْعِمَادُ، وَمَعْقِلُهَا الَّذِي تَلْجَأُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ، سَلَفُكَ خَيْرُ سَلَفٍ، وَأَنْتَ لَنَا مِنْهُمْ خَيْرُ خَلَفٍ. فَلَنْ يَخْمَدْ ذِكْرُ مَنْ أَنْتَ سَلَفُهُ وَلَنْ يَهْلِكَ مَنْ أَنْتَ خَلَفُهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ، نَحْنُ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ وَسَدَنَةُ بَيْتِهِ، أَشْخَصَنَا إِلَيْكَ الَّذِي أَبْهَجَنَا لِكَشْفِكَ الْكَرْبَ الَّذِي فَدَحَنَا، فَنَحْنُ وَفْدُ التَّهْنِئَةِ لَا وَفْدُ الْمُرْزِئَةِ. قَالَ: وَأَيُّهُمْ أَنْتَ أَيُّهَا الْمُتَكَلِّمُ؟ قَالَ: أَنَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. قَالَ: ابْنُ أُخْتِنَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: ادْنُ. فَأَدْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْقَوْمِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، وَنَاقَةً وَرَحْلًا، وَمُسْتَنَاخًا سَهْلًا، وَمَلِكًا رِبَحْلًا، يُعْطِي عَطَاءً جَزْلًا، قَدْ سَمِعَ الْمَلِكُ مَقَالَتَكُمْ، وَعَرَفَ قَرَابَتَكُمْ، وَقَبِلَ وَسِيلَتَكُمْ، فَأَنْتُمْ أَهْلُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَلَكُمُ الْكَرَامَةُ مَا أَقَمْتُمْ، وَالْحِبَاءُ إِذَا ظَعَنْتُمْ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ: انْهَضُوا إِلَى دَارِ الضِّيَافَةِ وَالْوُفُودِ. فَأَقَامُوا شَهْرًا لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ وَلَا يَأْذَنُ لَهُمْ فِي الِانْصِرَافِ. قَالَ: وَأَجْرَى عَلَيْهِمُ الْأَنْزَالَ، ثُمَّ انْتَبَهَ لَهُمُ انْتِبَاهَةً، فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَأَدْنَاهُ وَأَخْلَى مَجْلِسَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، إِنِّي مُفَوِّضٌ إِلَيْكَ مِنْ سِرِّ عِلْمِي أَمْرًا، لَوْ غَيْرُكَ يَكُونُ لَمْ أَبُحْ بِهِ لَهُ، وَلَكِنِّي وَجَدْتُكَ مَعْدِنَهُ؛ فَأَطْلَعْتُكَ طَلْعَهُ -[152]-، وَلْيَكُنْ عِنْدَكَ مَطْوِيًّا حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ فِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ بَالِغٌ فِيهِ أَمْرَهُ، إِنِّي أَجِدُ فِي الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ، وَالْعِلْمِ الْمَخْزُونِ، الَّذِي اخْتَرْنَاهُ لِأَنْفُسِنَا، وَاحْتَجَنَّاهُ دُونَ غَيْرِنَا، خَبَرًا جَسِيمًا، وَخَطَرًا عَظِيمًا، فِيهِ شَرَفٌ لِلْحَيَاةِ، وَفَضِيلَةٌ لِلنَّاسِ عَامَّةً، وَلِرَهْطِكَ كَافَّةً، وَلَكَ خَاصَّةً. قَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، مِثْلُكَ سَرَّ وَبَرَّ، فَمَا هُوَ؟ فِدَاكَ أَهْلُ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ، زُمَرًا بَعْدَ زُمَرٍ. قَالَ: فَإِذَا وُلِدَ بِتِهَامَةَ، غُلَامٌ بِهِ عَلَامَةٌ، كَانَتْ لَهُ الْإِمَامَةُ، وَلَكُمْ بِهِ الزِّعَامَةُ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: أَبَيْتَ اللَّعْنَ، لَقَدْ أَتَيْتَ بِخَبَرٍ مَا آبَ بِمِثْلِهِ وَافِدُ قَوْمٍ، وَلَوْلَا هَيْبَةُ الْمَلِكِ وَإِعْظَامُهُ وَإِجْلَالُهُ، لَسَأَلْتُهُ مِنْ سَارَّةِ آبَائِي مَا أَزْدَادُ بِهِ سُرُورًا، فَإِنْ رَأَى الْمَلِكُ أَنْ يُخْبِرَنِي بِإِفْصَاحٍ، فَقَدْ أَوْضَحَ لِي بَعْضَ الْإِيضَاحِ. قَالَ: هَذَا حِينُهُ الَّذِي يُولَدُ فِيهِ، أَوْ قَدْ وُلِدَ، اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ شَامَةٌ، يَمُوتُ أَبُوهُ وَأُمُّهُ، وَيَكْفُلُهُ جَدُّهُ وَعَمُّهُ، وَقَدْ وَجَدْنَاهُ مِرَارًا، وَاللَّهُ بَاعِثُهُ جِهَارًا، وَجَاعِلٌ لَهُ مِنَّا أَنْصَارًا، يُعِزُّ بِهِمْ أَوْلِيَاءَهُ، وَيُذِلَّ بِهِمْ أَعْدَاءَهُ، وَيَضْرِبُ بِهِمُ النَّاسَ عِنْ عَرَضٍ، وَيَسْتَبِيحُ بِهِمْ كَرَائِمَ الْأَرْضِ، يَعْبُدُ الرَّحْمَنَ، وَيَدْحَرُ الشَّيْطَانَ، وَيَكْسِرُ الْأَوْثَانَ، وَيُخْمِدُ النِّيرَانَ، قَوْلُهُ فَصْلٌ، وَحُكْمُهُ عَدْلٌ، يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَفْعَلُهُ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُبْطِلُهُ. قَالَ: فَخَرَّ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ سَاجِدًا، فَقَالَ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، ثَلَجَ صَدْرُكَ، وَعَلَا كَعْبُكَ، فَهَلْ أَحْسَسْتَ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ -[153]-، كَانَ لِي ابْنٌ، وَكُنْتُ بِهِ مُعْجَبًا، وَعَلَيْهِ رَفِيقًا، فَزَوَّجْتُهُ كَرِيمَةٌ مِنْ كَرَائِمِ قَوْمِهِ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ، فَجَاءَتْ بِغُلَامٍ سَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا، مَاتَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ، وَكَفَلْتُهُ أَنَا وَعَمُّهُ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ شَامَةٌ، وَفِيهِ كُلُّ مَا ذَكَرْتَ مِنْ عَلَامَةٍ. قَالَ لَهُ: وَالْبَيْتِ ذِي الْحُجُبِ، وَالْعَلَامَاتِ عَلَى النُّصُبِ، إِنَّكَ يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَجَدُّهُ غَيْرَ الْكَذِبِ، وَإِنَّ الَّذِي قُلْتَ لَكَمَا قُلْتُ، فَاحْتَفِظْ بِابْنِكَ، وَاحْذَرْ عَلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ لَهُ أَعْدَاءٌ، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ عَلَيْهِ سَبِيلًا، فَاطْوِ مَا ذَكَرْتُ لَكَ دُونَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ الَّذِينَ مَعَكَ، فَإِنِّي لَسْتُ آمَنُ أَنْ تَدْخُلَهُمُ النَّفَاسَةُ، مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ الرِّيَاسَةُ، فَيَبْتَغُونَ لَكَ الْغَوَايِلَ، وَيَنْصِبُونَ لَكَ الْحَبَايِلَ، وَهُمْ فَاعِلُونَ أَوْ أَبْنَاؤُهُمْ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَوْتَ مُجْتَاحِي قَبْلَ مَبْعَثِهِ، لَسِرْتُ بِخَيْلِي وَرَجِلِي حَتَّى أَصِيرَ بِيَثْرِبَ دَارِ مَمْلَكَتِهِ، فَإِنِّي أَجِدُ فِي الْكِتَابِ النَّاطِقِ، وَالْعِلْمِ السَّابِقِ، أَنَّ بِيَثْرِبَ اسْتِحْكَامَ أَمْرِهِ، وَأَهْلَ نَصْرِهِ، وَمَوْضِعَ قَبْرِهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أَقِيهِ الْآفَاتِ، وَأَحْذَرُ عَلَيْهِ الْعَاهَاتِ، لَأَوْطَأْتُ أَسْنَانَ الْعَرَبِ كَعْبَهُ، وَلَأَعْلَيْتُ عَلَى حَدَاثَةِ سِنِّهِ ذِكْرَهُ، وَلَكِنِّي صَارِفٌ ذَلِكَ إِلَيْكَ، عَنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ بِمَنْ مَعَكَ. ثُمَّ أَمَرَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَعَشَرَةِ أَعْبُدٍ، وَعَشْرِ إِمَاءٍ، وَعَشَرَةِ أَرْطَالِ ذَهَبٍ، وَعَشَرَةِ أَرْطَالِ فِضَّةٍ، وَكِرْشٍ مَمْلُوءَةٍ عَنْبَرًا -[154]-، وَأَمَرَ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِعَشَرَةِ أَضْعَافِ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: ايْتِنِي بِخَبَرِهِ وَمَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ. فَمَاتَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ، وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَغْبِطْنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ بِجَزِيلِ عَطَاءِ الْمَلِكِ؛ فَإِنَّهُ إِلَى نَفَادٍ، وَلَكِنْ لِيَغْبِطْنِي بِمَا يَبْقَى لِي وَلِعَقِبِي شَرَفُهُ وَذِكْرُهُ وَفَخْرُهُ. فَإِذَا قِيلَ لَهُ: وَمَا ذَاكَ؟ يَقُولُ: سَتَعْلَمُنَّ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ. وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ:
[البحر الوافر]
جَلَبْنَا النُّصْحَ نَحْقِبُهَا الْمَطَايَا ... إِلَى أَكْوَارِ أَجْمَالٍ وَنُوقِ
مُغَلْغَلَةٍ مَرَاتِعُهَا تَعَالَى ... إِلَى صَنْعَاءَ مِنْ فَجٍّ عَمِيقِ
تَؤُمُّ بِنَا ابْنَ ذِي يَزَنَ وَتَفْرِي ... ذَوَاتُ بُطُونِهَا أُمَّ الطَّرِيقِ
وَنَرْعَى مِنْ مَخَايِلِهَا بُرُوقًا ... مُوَاقِفَةَ الْوَمِيضِ إِلَى بُرُوقِ
وَلَمَّا وَافَقَتْ صَنْعَاءَ صَارَتْ ... بِدَارِ الْمُلْكِ وَالْحَسَبِ الْعَرِيقِ
قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ: وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْفِيلَ وَمَا صَنَعَ بِأَصْحَابِهِ، فَقَالَ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] إِلَى آخِرِهَا، وَلَوْ لَمْ يَنْطِقِ الْقُرْآنُ بِهِ لَكَانَ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاطِئَةِ، وَالْأَشْعَارِ الْمُتَظَاهِرَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ حُجَّةٌ وَبَيَانٌ لِشُهْرَتِهِ، وَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تُؤَرِّخُ بِهِ، فَكَانُوا يُؤَرِّخُونَ فِي كُتُبِهِمْ وَدُيُونِهِمْ مِنْ سَنَةِ الْفِيلِ، وَفِيهَا وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ تَزَلْ قُرَيْشٌ وَالْعَرَبُ بِمَكَّةَ جَمِيعًا تُؤَرِّخُ بِعَامِ الْفِيلِ، ثُمَّ أَرَّخَتْ بِعَامِ الْفِجَارِ، ثُمَّ أَرَّخَتْ بِبُنْيَانِ الْكَعْبَةِ فَلَمْ تَزَلْ تُؤَرِّخُ بِهِ حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَأَرَّخَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَامِ الْهِجْرَةِ. وَلَقَدْ بَلَغَ مِنْ شُهْرَةِ أَمْرِ الْفِيلِ، وَصُنْعِ اللَّهِ بِأَصْحَابِهِ، وَاسْتِفَاضَةِ ذَلِكَ فِيهِمْ، حَتَّى قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى حَدَاثَةِ سِنِّهَا: «لَقَدْ رَأَيْتُ قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِسَهُ أَعْمَيَيْنِ بِبَطْنِ مَكَّةَ يَسْتَطْعِمَانِ» . وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَحْدَاثِ قُرَيْشٍ أَنَّهُ رَآهُمَا أَعْمَيَيْنِ -[155]-. مَا جَاءَ فِي شَوَاهِدِ الشِّعْرِ فِي ذَلِكَ قَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ الْغَنَوِيُّ - وَهُوَ جَاهِلِيٌّ -:
[البحر البسيط]
تَرْعَى مَذَانِبَ وَسْمِيٍّ أَطَاعَ لَهَا ... بِالْجِزْعِ حَيْثُ عَصَى أَصْحَابَهُ الْفِيلُ
وَقَالَ صَيْفِيُّ بْنُ عَامِرٍ، وَهُوَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ الْخَزْرَجِيُّ - وَهُوَ جَاهِلِيٌّ - يَعْنِي قُرَيْشًا:
[البحر الطويل]
قُومُوا فَصَلُّوا رَبَّكُمْ وَتَعَوَّذُوا ... بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ الْأَخَاشِبِ
فَعِنْدَكُمُ مِنْهُ بَلَاءٌ وَمَصْدَقٌ ... غَدَاةَ أَبِي يَكْسُومَ هَادِي الْكَتَائِبِ
فَلَمَّا أَجَازُوا بَطْنَ نَعْمَانَ رَدَّهُمْ ... جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ سَافٍ وَحَاصِبِ
فَوَلَّوْا سِرَاعًا نَادِمِينَ وَلَمْ يَؤُبْ ... إِلَى أَهْلِهِ بِالْجَيْشِ غَيْرُ عَصَائِبِ
وَقَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ:
[البحر المتقارب]
وَمِنْ صُنْعِهِ يَوْمَ فِيلِ الْحُبُوشِ ... إِذْ كُلُّ مَا بَعَثُوهُ رَزَمْ
-[156]-
مَحَاجِنُهُم تَحْتَ أَقْرَابِهِ ... وَقَدْ كَلَمُوا أَنْفَهُ بِالْخَزَمْ
وَقَدْ جَعَلُوا سَوْطَهُ مِغْوَلًا ... إِذَا يَمَّمُوهُ قَفَاهُ كَلَمْ
فَأَرْسَلَ مِنْ فَوْقِهِمْ حَاصِبًا ... يَلُفُّهُمُ مِثْلَ لَفِّ الْقَزَمْ
يَحُثُّ عَلَى الطَّيْرِ أَجْنَادَهُمْ وَقَدْ ثَأَجُوا كَثُؤَاجِ الْغَنَمْ وَقَالَ أَبُو الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ - وَهُوَ جَاهِلِيٌّ -:
[البحر المنسرح]
إِنَّ آيَاتِ رَبِّنَا بَيِّنَاتٌ ... مَا يُمَارِي فِيهِنَّ إِلَّا كَفُورُ
حَبَسَ الْفِيلَ بِالْمُغَمَّسِ ... حَتَّى ظَلَّ يَحْبُو كَأَنَّهُ مَعْقُورُ
وَاضِعًا حَلْقَةَ الْجِرَانِ كَمَا ... قَطَرَ صَخْرٌ مِنْ كَبْكَبٍ مَحْدُورُ
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ:
[البحر الرجز]
أَنْتَ حَبَسْتَ الْفِيلَ بِالْمُغَمَّسْ ... حَبَسْتَهُ كَأَنَّهُ مُكَرْدَسْ
مِنْ بَعْدَ مَا هُمْ بِشَرِّ مَحْبَسْ ... بِمَحْبَسٍ تُزْهَقُ فِيهِ الْأَنْفُسْ
وَقْتٌ بثاث رَبَّنَا أَلَمْ تَدْنَسْ ... يَا وَاهِبَ الْحَيِّ الْجَمِيعِ الْأَحْمَسْ
وَمَا لَهُمْ مِنْ طَارِقٍ وَمَنْفَسْ ... وَجَارُهُ مِثْلُ الْجَوَارِي الْكُنَّسْ
أَنْتَ لَنَا فِي كُلِّ أَمْرٍ مُضَرِّسْ ... وَفِي هَنَاتٍ أَخَذَتْ بِالْأَنْفُسْ
-[157]-
وَقَالَ ابْنُ أُذَيْنَةَ الثَّقَفِيُّ:
[البحر المتقارب]
لَعَمْرُكَ مَا لِلْفَتَى مِنْ مَفَرٍّ ... مَعَ الْمَوْتِ يَلْحَقُهُ وَالْكِبَرْ
لَعَمْرُكَ مَا لِلْفَتَى عَصْرَةٌ ... لَعَمْرُكَ مَا إِنْ لَهُ مِنْ وَزَرْ
أَبْعَدَ قَبَائِلَ مِنْ حِمْيَرٍ ... أَتَوْا ذَاتَ صُبْحٍ بِذَاتِ الْعِبَرْ
بِأَلْفٍ أُلُوفٍ وَحَرَّابَةٍ ... كَمِثْلِ السَّمَاءِ قُبَيْلَ الْمَطَرْ
يَصُمُّ صُرَاخُهُمُ الْمُقْرِبَاتِ ... يُنَفُّونَ مَنْ قَاتَلُوا بِالذَّفَرْ
سُعَالَى مِثْلُ عَدِيدِ التُّرَابِ ... تَيَبَّسَ مِنْهَا رِطَابُ الشَّجَرْ