الأوس والخزرج فسوّدوه على أنفسهم، وملّكوه، إذ أراحهم من عار الدّهر. وذلّت اليهود بعد ذلك فلم ترفع رأساً.
قال الزّبير بن بكار: كان عبد الرّحمن بن أبي عمّار من عبّاد أهل مكّة، فسمي القسّ من عبادته. فمرّ ذات يومٍ بدار سهل بن عبد الرّحمن بن عوف مولى سلامة الزّرقاء، وهي تغنّي، فسمع غناءها، فبلغ منه كلّ مبلغ، فرآه مولاها وتبيّن ما لحقه، فقال له: هل لك أن تدخل إليها وتسمع منها؟ فامتنع وأبى، فقال له: أنا أقعدك في موضعٍ تسمع من غنائها ولا تراها ولا تراك. ولم يزل به حتّى دخل وسمع غناءها، فأعجبه، فقال له: هل لك أن أخرجها لك؟ فامتنع بعض الامتناع، ثمّ أجابه. فأخرجها إليه، وأقعدها بين يديه، وغنّته، فشغف بها، وشغفت به. وكان أديباً ظريفاً. واشتهر أمره معها بمكّة حتّى سمّوها سلامة القسّ.
وخلا معها يوماً، فقالت له: أنا، والله، أحبّك فقال لها: أنا، والله، كذلك. قالت له: أحبّ أن أضع فمك على فمي. قال: وأنا، والله. قالت: فما يمنعك من ذلك، فوالله إنّ الموضع لخالٍ؟ فقال لها: ويحك، إنّي سمعت الله عزّ وجل يقول في كتابه: " الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلاّ المتّقين ". وأنا أكره أن تكون خلّة ما بيني وبينك عداوة يوم القيامة. ثمّ نهض وعيناه تذرفان من حبّها وعاد إلى الطّريقة التي كان عليها من النّسك والعبادة. وكان يمرّ في بعض الأيّام ببابها فيرسل إليها بالسّلام فيقال له: أدخل فيأبى. وقال فيها أشعاراً كثيرةً، وغنّته بها. فمنها:
إنّ التي طرقتك بين ركائب ... تمشي بمزهرها وأنت حرام
باتت تعلّلنا، وتحسب أنّنا، ... في ذاك أيقاظ ونحن نيام
حتّى إذا سطع الصّبح لناظرٍ ... فإذا الذي ما بيننا أحلام
قد كنت أعذل في السّفاهة أهلها ... فاعجب بما تأتي به الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلم أنّما ... طرق الضّلالة والهدى أقسام
وفيها قوله:
على سلاّمة القلب السّلام ... تحية من زيارته لمام
أحبّ لقاءها، وألوم نفسي، ... كأنّ لقاءها شيءٌ حرام
إذا ما حنّ مزهرها إليها ... وحنّت نحوه، أذن الكرام
فمدّوا نحوها الأعناق حتّى ... كأنّهم وما ناموا نيام
وله فيها أشعار كثيرة تركت ذكرها ها هنا لأنّها مستقصاةٌ من أخبارها في كتاب طبقات المغنّين.
قال: وفدت عزّة وبثينة على عبد الملك بن مروان فلمّا دخلتا عليه انحرف إلى عزّة، وقال لها: أنت عزّة كثير؟ قالت: لست لكثير بعزّة ولكنّي أمّ بكرٍ الضّمريّة. قال أتروين قول كثيرٍ فيك؟
لقد زعمت أني تغيّرت بعدها ... ومن ذا الذي يا عزّ لا يتغيّر
تغيّر جسمي والخليقة كالتي ... عهدت، ولم يخبر بسرّك مخبر
قالت: لست أروي هذا، ولكنّي أروي غيره حيث يقول:
كأنّي أنادي صخرةً حين أعرضت ... من الصّمّ لو يمشي بها العصم زلّت
صفوحاً فما تلقاك إلاّ بحيلةٍ ... فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت
ثمّ عطف على بثينة فقال لها: ما رأى جميل حين لهج بذكرك بين النّساء كلّهن؟ قالت: الذي رأى فيك النّاس حين جعلوك خليفة من بين رجال العالمين. فضحك حتّى بدت سنٌّ له سوداء، كان يخفيها، وأجزل جائزتهما وقضى حوائجهما.
وقال محمّد بن يحيى المدني: سمعت عطاء يقول: كان الرّجل يحبّ الفتاة فيطوف بدارها حولاً كاملاً يفرح إن رأى مرآها، وإن ظفر منها بمجلسٍ تشاكيا وتناشدا الأشعار. فاليوم يشير إليها، وتشير إليه، فإذا التقيا لم يشكوا حبّاً، ولم ينشدا شعراً. وقام إليها كأنّه أشهد على نكاحها أبا هريرة وأصحابه.
وحكى أبو الحسن المدايني قال: هوى بعض المسلمين جاريةً بمكّة فأرادها، فامتنعت عليه. فأنشدها:
سألت الفتى المكّيّ هل في تزاورٍ ... وقبلة مشتاق الفؤاد، جناح؟
فقال: معاذ الله أن يذهب الهوى ... تلاصق أكبادٍ بهنّ جراح
فقالت له: بالله، إنّك سمعته وسألته فأجابك بهذا الجّواب؟ قال: نعم. فزارته وجعلت تقول: إيّاك أن تتعدى ما أمرك به عطاء.
وروى عبد الرحمن بن نافع، أنّ أبا هريرة سئل عن قول الله عز وجل " الذين يجتنبون كبائر الأثم والفواحش إلا اللمم ". فقال: هي النظرة والغمزة والقبلة. وقال مجاهد: هو الرّجل يلمّ بالذّنب مرّةً ثمّ لا يعود، وبإسنادٍ عن رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أنّ رجلاً جاء إليه فقال له: إنّي أخذت امرأةً في البستان فأصبت منها كلّ شيءٍ، إلاّ أنّي لم أنكحها فاصنع ما شئت؟ فسكت عنه، صلّى الله عليه وسلّم. فلمّا ذهب، دعاه فقرأه عليه " وَأَقِمِ الصّلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إنّ الحسنات يذهبن السيئات " الآية.