الضعيف الطباع عن مطلب الحقائق ويتقلدها محبو الكسل والرفاهة فتتخيل لهم كأنها طباع وغريزة فيألفونها وينشئون عَلَيْهَا ويكرهون مفارقتها للعادة ويسابقون عَلَيْهَا ويتعصمون هالتها العلوم الصحيحة فيحدث فِي العقول وباء عن ميل النفس مع الهوى فتموت القرائح الذكية عَلَى مثال مَا تموت الأجسام عن فساد جوهر الهواء ولهذا قال أرسطوطاليس الإنسان الجاهل ميت والمتجهل عليل والعالم حي صحيح فهذا مقنع لمن حاد عن طباع العقل وفيه كفاية لمحبي الحق وبيان الدعوى أن الَّذِي علم من الكتب علماً ردياً شكوكه بحسب علمه يعسر حلها وهو مَا أردنا أن نبين.

ومنه الفصل الرابع أن من عادات الفضلاء إِذَا قرؤوا كتب القدماء أَن لا يقطعوا فِي علمائها يظن دون معرفة الأمر عَلَى الحقيقة إذ من عادات القدماء إِذَا وقفت عليهم المطالب ولاح فِيهَا تباين وتناقض أن يعودوا إِلَى التطلب ولا يتسرعوا إلى إفساد المطالب فإن أرسطوطاليس بقي يرصد القوس الكائن عن القمر أكثر عمره غما رآه إِلاَّ دفعتين وجالينوس واظب عَلَى السكون الَّذِي بعد الانقباض فِي النبض سنين كثيرة حَتَّى أدركه وأبو الخير بن الخمار وأبو علي بن زرعة ماتا بحسرة مقالة يحيى بن عدي فِي المخرسات المبطلة لكتاب القياس وشيخنا أبو الفرج عبد الله بن الطيب بقي عشرين سنة فِي تفسير مَا بعد الطبيعة ومرض من الفكر فِيهِ مرضة كاد يلفظ فِيهَا وَمَا فيهم رحمهم الله إِلاَّ من أنفق عمره فِي العلم طلباً لإدراك الحق هَذَا والي فِي عقولهم مما بالفعل أكثر مما بالقوة ونحن وَمَا بالقوة فينا أكثر مما بالفعل أخلدنا إِلَى الطعن عليهم ضحك الحق منا وخسرنا أشرف مَا فينا ولهذا يجب عَلَى كل نسمة عالمة دونهم فِي الرتبة إِذَا رأت أقاويلهم متباينة أن لا تقطع بقول فيهم إِلاَّ بعد الثقة ولا ترتب إِذَا رأيت أرسطوطاليس يعتقد أن القلب منشأ الأعصاب والعروق والشرايين والعظام وجميع القوى ثُمَّ رأيت جالينوس ينسب مبدأ كل واحد من القوى إِلَى واحد واحد من الأعضاء الثلاثة أعني الدماغ والقلب والكبد ويقول كل واحد منها ينشأ ينظر خوادمها ولا تقطع بصواب أحدهما لأن أرسطوطاليس ينظر فِي القوى من جهة طباعها وجالينوس ينظر فِيهَا من جهة استقراء الفعل المحسوس فِي العضو الخاص لَهَا وإذا رأينا جالينوس يقسم الأعضاء إِلَى المتشابهة والآلية وليست هَذِهِ الطريقة تعديداً ولا قسمة صحيحة لأن المتشابهة أيضاً آلية إِذَا كَانَ العصب آلة لجريان الروح النفساني والحركة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015