بني للمخلوع مجلس لم تر العرب والعجم مثله قد صور فيه كل التصاوير وذهب سقفه وحيطانه وأبوابه. وعلقت على أبوابه ستور معصفرة مذهبة، وفرش بمثل ذلك من الفرش، فلما فرغ من جميع أسبابه وعرف ذلك اختار لدخوله يوما وتقدم بأن يؤمر الندماء والشعراء بالحضور غدوة ذلك اليوم ليصطحبوا معه فيه ففعلوا فلم يتخلف أحد وكان فيمن حضر أبو نواس فدخلوا يوما فرأوا أسا لم يروا مثله قط قط ولم يسمعوا به، من إيوان مشرف فائح فاسح يسافر فيه البصر وجعل كالبيضة بياضا ثم ذهب بالإبريز المخالف بينه باللازورد بذي أبواب عظام ومصاريع غلاظ تتلألأ فيها مسامير الذهب قد قمعت رؤوسها بالجوهر النفيس وقد فرش بفرش كأنه صبغ الدم منقش بتصاوير الذهب وتماثيل العيقان ونضد فيه العنبر الأشهب والكافور المصعد وعجين المسك وصنوف الفاكهة والشمامات والتزايين، فدعوا له وأثنوا عليه وأخذوا مجالسهم على نراتبهم عنده ومنزلتهم منه ثم أقبل عليهم فقال: إني أحببت أن أفرغ متعة هذا المجلس معكم وأصطبح فيه بكم وقد ترون حسنه فلا تنغصوني ذلك بالتكلف ولا تكدروا سروري بالتحفظ ولكن انبسطوا وتحدثوا وتبذلوا فما العيش إلا في ذلك. فقالوا: يا أمير المؤمنين بالطائر الميمون والكوكب السعدي والجد الصاعد والأمر العالي والظفر والفوز ووفقت يا أمير المؤمنين، وفقت ولم تزل موفقا. ثم لما طعموا أتى بالشراب كأنه الزعفران أصفى من وصال المعشوق وأطيب ريحا من نسم المحبوب. وقام سقاة كالبدور بكؤوس كالنجوم فطافوا عليهم وعملت (الجواري من خلف) الستائر بمزمارها، فشربوا معه من صدر نهارهم إلى آخره في مذاكرة كقطع الرياض، ونشيد كالدر المفصل بالعيقان وسماع يحيي النفوس ويزيد في الأعمار، فلما كان آخر النهار دعا بعشرة آلاف دينار في صوان فأمر فنثرت عليهم فانتبهوها، والشراب يدور بعد عليهم بالكبير والصغير من الصرف والممزوج وليس يمنع أحد منهم مما يريد ولا سكره على ما يأباه، وكان جيد الشراب، فصبروا معه إلى أن سكر فنام وقام جميع من في المجلس عند ذلك إلا أبا نواس فإنه بيت مكانه فشرب وحده فلما كان السحر دنا من محمد فقال: يا أمير المؤمنين. قال: لبيك يا خير الندامى، فقال أبو نواس، يا سيد العالمين أما ترى رقة هذا النسيم وطيب هذا الشمال وبرد هذا السحر وصحة هذا الهواء المعتدل والجو الصافي وبهيج هذه الأنوار! فلما سمع محمد وصفه استوى جالسا وقال: يا أبا نواس ما بي للشرب موضع ولا للسهر مكان وقد بسطتني بمنثور وصفك فنشطني بمنظومة للشرب فأنشأ يقول:
نبه نديمك قد نعس ... بسقيك كأسا في الغلس
صرفا كأن شعاعها ... في كف شاربها قبس
تذر الفتى وكأنما ... بلسانه منها خرس
يدعى فيرفع رأسه ... فاذا استقل به نكس
يسقيكها ذو قرطق ... يلهي ويؤذي من جلس
خنت الجفون كأنه ... ظبي الرياض إذا نعس
أضحى الإمام محمد ... للدين نورا يقتبس
ورث الخلافة خمسة ... وبخير سادسهم سدس
تبكي البدور لضحكه ... والسيف يضحك إن عبس
فارتاح المخلوع ودعا بالشراب فشرب معه.
حدثني محمد بن زياد بن محمد: عن أبي هفان قال: قال لي أبو نواس: الشره في الطعام دناءة وفي الأدب مروءة وكل من حرص على شيء فاستكثر منه سكن حرصه وقرت عينه غير الأدب فإنه كلما ازداد منه صاحبه ازداد حرصا عليها وشهوة له ودخولا فيه.
وحدثني ((يعني علي بن حرب)) عن أبي مرزوق: عن أبي هقان قال: كان أبو نواس آدب الناس وأعرفهم بكل شعر وكان مطبوعا لا يستقصي ولا يحلل شعره ولا يقوم عليه ويقوله على السكر كثيرا. فشعره متفاوت، لذلك لا يوجد فيه ما هو في الثريا جودة وحسنا وقوة وما هو في الحضيض ضعفا وركاكة. وكان مع كثرة أدبه وعلمه خليعا ماجنا وفتى شاطرا وهو في جميع ذلك حلو ظريف وكان يسحر الناس لظرفه وحلاوته وكثرة ملحه، وكان أسخى الناس لا يحفظ ماله ولا يمسكه، وكان شديد التعصب لقحطان على عدنان وله فيهم أشعار كثيرة يمدحهم ويهجو أعداءهم، وكان يتهم برأي الخوارج.
8- طبقات الشعراء لابن المعتز
حدثني محمد بن عبد الأعلى القرشي قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: قال الأصمعي: