فقلنا له: اتق الله يا هذا في نفسك، فقد نلت من رخاء العيش وليانه ما في دونه كفاية ومقنع وارتداع، أما ترى الشيب لامعا في رأسك؟ وأكثرنا عليه من هذا الكلام وقطعناه عذلا وتأنيبا وهو مطرق إطراق الخجل ينكت الأرض ويتأمل نفسه وما قد تلوث به وصار جيفة، فقلت في نفسي: لعل ما نرى من حاله أن يحدث له ندما وإقلاعا عن سيء أفعاله. وإن لم تسمح نفسه بالتوبة في هذا الوقت فليست فيه حيلة ولا موضع للعتاب أبدا فلما أتينا على آخر كلامنا قال: بقي لكم من العذل والتوبيخ شيء؟ قلنا: لن ينجع فيك العتاب وإن أكثرنا ووصلنا بعضه ببعض. قال: قد سمعت قولكم ونصيحتكم فاسمعوا الجواب عنه - ونحن نظن أنه يحتج عن نفسه ويعتذر عن فعله - فقلنا: هات. فأنشأ يقول:

..من لقيت من البشر ... واعذر أخاك إذا فجر

وأخلع عذارك في الهوى ... مثل الخليع المشتهر

واسحب ذيولك في الصبا ... ودع العوازل في سقر

لا يمنعنك زاجر ... عمن هويت إذا زجر

فاشرب معتقة الخمو ... ر ولا تعف عن السكر

واسكر لتضحي شهرة ... متلوثا وسط القذر

ودع القراة لأهلها ... فهم: الكراب على البقر

إن التنسك عندنا ... والزهد من إحدى الكبر

لا تحقرن لطيفة ... صغرت ولا ذات كبر

ممن تبرج للزنا ... والحور بات الخدر

والمرد لا تدعنّهم ... أهل التصفق والطرر

ممن إذا جمشته ... أبدى الشتيمة أو نخر

مثل ابن فورك في الدلا ... ل وذي التبختر والخفر

قالوا التحى فمحا محا ... سن وجهه نبت الشعر

فأجبتهم لا يسبقن ... في الدور سيلكمو المطر

الآن طاب وإنما ... ذاك البهار على الشجر

تلك اللحية روضة ... خضراء تنبت في الزهر

لولا سواد في القمر ... والله ما حسن القمر

يا عاذلي على هوى ... هذا دوينكمو الحجر

رضوا به أسنانكم ... وكلوا التراب مع المدر

لا لا غدرت بمن هوي ... ت إلى الممات وإن غدر

والله لا جنبته ... مني الوصال وإن هجر

فلما أتى على آخرها بهتنا وبقينا ننظر إليه تعجبا. فقال: مالكم لا تتكلمون؟ قلنا: وما يغني معك إطالة القول وقد ذهب كل شيء قلنا جفاء. قال: وتشكون في ذلك؟ أنتم والله عندي حمقى. أنا أنازع إلى هذه السكرة وأشتهيها حتى تهيأت لي الآن وأرجو ألا أعدم أخواتها. قوموا بنا إلى الحمام. فنهضنا معه حتى تنظف ونزعت أنا وعدة من أصحابي ثيابا فاضلة كانت علينا فلبسها ووهب ثيابه الملونة للخمار. ثم قلنا: قد تنظفت فامض بنا، فقال لنا: سبحان الله نجتمع في هذا الموضع وننصرف منه ولم نشرب فيه؟ هذا والله من سقوط الهمة وسوء الاختيار. اقعدوا، فقعدنا والتفت إلى الخمار وقال له: أحب أن تلذذ أصحابنا، قال له: بماذا؟ قال: لا يغرنك عن عزلهم وتأنيبهم إياي فإنهم يركبون المغمصة فاطلب لنا غلاما مليحا، وقد سمعت البارحة غناء وزمرا فأحضرناه فخرج الخمار فما كان إلا ساعة حتى جاءنا بغلام لم نر مثله قط وكراعات كن هناك من بغداد فأقمنا بها يوما وغده والثالث ثم اجمعنا على الانصراف عنها فأنشأ يقول:

سلاف دن، كشمس دجن ... كدمع جفن، كخمر عدن

طبيخ شمس، كلون ورس ... ربيب فرس، حليف سجن

رأيت علجا، بباطرنجا ... لها توجى فلم يثن

حتى تبدت، وقد تصدت ... لنا وملت، حلول دن

فاحت بريح، كريح شيح ... يوم صبوح، وغيم دجن

يسقيك ساق، على اشتياق ... إلى التلاقي، بماء مزن

يدير طرفا، يعير حتفا ... إذا تكفى، من التثني

على غناء، وصوت ناء ... دواء داء، من التجني

ولثم خد، كطعم شهد ... من ذات قد، وهي تغني

غناء دل، وضرب طبل ... ورمي نبل، بطرف جني

يا من لحاني، على القيان ... اللهو شاني، فلا تلمني

أطلت عذلا، فقلت من لا ... يريد إلا، السلو عني

أسخنت عينا، تراك زينا ... فأين أين، الفرار مني

هتكت ستري، فباح سري ... وعيل صبري، لطول حزني

23- أبو هفان قال: حدثت عن كامل الثقفي أنه قال: بلغني أن رجلا من متلصصة البصرة وسراقها قال:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015