وما العُرْفُ بالتَّسْويفِ إلا كخُلةٍ ... تَسَلَّيْتَ عنها حينَ شَطَّ مَزارُهَا

فقال البحتري:

وكنتُ وَقد أَمَّلْتُ مُرّاً لِنَائِلٍ ... كَطالبِ جَدْوَى خُلَّةٍ لا تُواصِلُ

ومما احتذى فيه البحتري أبا تمام، وقدر مثل كلامه فعمل معناه عليه، ما أخذه من قول أبي تمام:

هِمةٌ تنطِحُ النجومَ وَجَدٌّ ... ألِفٌ للحضيِضِ فهو حضيضُ

فقال البحتري:

متحير بعزم قائم ... في كل نازلة وجد قاعد

قال أبو تمام:

مُتَوَطِّئُو عَقِبَيْكَ فيِ طَلَبِ العُلاَ ... والمْجدِ ثُمَّتَ تَسْتوِي الأَقدامُ

فقال البحتري:

حُزْتَ العُلا سَبْقاً وصلَّى ثانياً ... ثم اسْتَوَتْ من بَعْدِه الأَقْدَامُ

وقال أبو تمام:

تَنْدَى عُفاتُكَ للعُفاةِ وتَغْتَدِى ... رُفَقاً إلى زُوَّارِكَ الزُّوَّارُ

فقال البحتري على تقديره:

ضَيْفٌ لَهُم يَقْرِي الضيوفَ ونازلٌ ... مُتَكَفِّلٌ فيِهمْ بِبِرِّ النُّزَّلِ

وقال أبو تمام:

عَطَفُوا الخُدورَ عَلَى البُدُورِ وَوَكَّلوا ... ظُلَمَ السُّتُورِ بِنُورِ حُورٍ نهَّدِ

فقال البحتري:

وَبِيضٍ أضَاءَتْ فِي الخُدُورِ كأنها ... بُدُورُ دُجىً جَلَّتْ سَوَادَ الحَنَادِس

حدثني عبد الله بن المعتز قال: حدثني أبو سعيد النحوي المعروف بصعودا عن أبي تمام الطائي قال: خرجت يوماً إلى سر من رأى، حين ولي الواثق، فلقيني أعرابي وقد قربت منها، فأردت أن أسأله عن شيءٍ من أخبار الناس بها، فخاطبته، فإذا أفصح الناس وأفطنهم، فقلت: ممن الرجل؟ قال: من بني عامر، قلت: كيف علمك بأمير المؤمنين؟ قال: قتل أرضاً عالمها، قلت فما تقول فيه؟ قال: وثق بالله فكفاه، أشجى العاصية، وقمع العادية، وعدل في الرعية، وأرعف كل ذي قلمٍ خيانته. قلت: فما تقول في أحمد بن أبي دؤاد؟ قال: هضبة لا ترام، وجندلة لا تضام، تشحذ له المدى، وتحبل له الأشراك، وتبغي له الغوائل، حتى إذا قيل كأن قد، وثب وثبة الذئب، وختل ختل الضب. قلت: فما تقول في محمد بن عبد الملك؟ قال: وسع الدانى شره، وقتل البعيد ضره، له كل يومٍ صريع لا يرى فيه أثر نابٍ، ولا ندب مخلبٍ. قلت: فما تقول في عمرو بن فرج؟ قال: ضخم لهم، مستعذب للذم. قلت: فما تقول في الفضل بن مروان؟ واستعذبت خطابه، قال: ذاك رجل نشر بعد ما قبر، فعليه حياة الأحياء وخفته الموتى. قلت: فما تقول في أبي الوزير؟ قال: كبش الزنادقة الذي تعرف، ألا ترى أن الخليفة إذا أهمله. سنح ورتع، فإذا هزه أمطر فأمرع؟ قلت: فابن الخصيب؟ قال: أكل أكلة نهم، فذرق ذرقة بشم. قلت: فما تقول في إبراهيم أخيه؟ قال: " أموات غير أحياءٍ وما يشعرون أيان يبعثون ". قلت: فما تقول في أحمد بن إسرائيل؟ قال: لله دره، أي قلقلٍ هو؟ غرس في منابت الكرم، حتى إذا اهتز لهم حصدوه. قلت: فما تقول في إبراهيم بن رياح؟ قال: أوبقه كرمه، وأسلمه حسبه، وله معروف لا يسلمه، ورب لا يخذله، وخليفة لا يظلمه. قلت: فما تقول في نجاح بن سلمة؟ قال: لله دره، أي طالب وترٍ، ومدرك ثأرٍ! يتلهب كأنه شعلةُ نار، له من الخليفة جلسة تزيل نعماً، وتحل نقماً. قلت: يا أعرابي، أين منزلك؟ قال: اللهم غفراً، إذا اشتمل الظلام فحيثما أدركني الرقاد رقدت! قلت: فكيف رضاك عن أهل العسكر؟ قال: لا أخلق وجهي بمسألتهم، أوأما سمعت قول هذا الفتى الطائي، الذي قد ملأ الدنيا شعره:

ومَا أُبالِي وخَيْرُ القَوْلِ أَصْدَقُهُ ... حَقَنتَ لي ماءَ وجهي أو حقَنْتَ دَمِي

قلت: فأنا الطائي قائل هذا الشعر! فدنا مبادراً فعانقني وقال: لله أبوك، ألست الذي يقول:

ما جُودُ كفِّكَ إن جادت وإن بخِلَتْ ... من ماءِ وجهي إذَا أخلقتُه عِوَضُ

قلت: نعم، قال: أنت والله أشعر أهل الزمان. فرجعت بالأعرابي معي إلى ابن أبي دؤاد، وحدثته بحديثه، فأدخله إلى الواثق، فسأله عن خبره معي، فأخبره به، فأمر له بمالٍ، وأحسن إليه، ووهب له أحمد بن أبي دؤاد، فكان يقول لي: قد عظم الله بركتك علي.

حدثني محمد بن القاسم بن خلادٍ قال: انصرفت يوماً من عند ابن أبي دؤادٍ، فدخلت إلى محمد ابن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015