فاحتذى معانيه واقتصها، فجذبته المعاني واضطرته إلى أن حكى لفظه في هذا، فصار يشبه لفظ أبي تمام، ولفظ البحتري في أكثر هذه أسهل؛ ثم ردد هذا المعنى البحتري فقال واستعاره للسيف:
مُشْرِقُ للنَّدَى ومِن حَسَبِ السَّيْ ... فِ لِمُسْتَلِّه ضياءُ حَديِدِهْ
ضَحَكَاتٌ في إثْرِهِنَّ العَطَايَا ... وَبُرُوقُ السَّحَابِ قبلَ رُعُودِهْ
ثم ردد المعنى وأسقط البشر منه وصير مكانه الرعد فقال في أبي الصقر:
يُولِيكَ صَدْرَ الَيْومِ قاصِيَة الغِنَى ... بِفَوائدٍ قَدْ كُنَّ أَمْسِ مَوَاعِدَا
سَوْمَ السَّحَائِبِ ما بَدَأْنَ بَوَارِقاً ... في عَارِضٍ إلاَّ ثَنَيْنَ رَوَاعِدَا
ثم ردد المعنى الأول بحاله، فقال في المعتز بالله وأحسن:
متهلِّلٌ طَلْقٌ إذا وعدَ الغِنَى ... بالبِشْرِ أتْبَعَ بِشْرَهُ بالنَّائِلِ
كالمُزْنِ إنْ سَطَعتْ لوامعُ بَرْقِهِ ... أَجْلَتْ لنَا عَنْ دِيَمةٍ أَوْ وَابِلِ
وهذا المعنى فإنما ابتدأه أبو نواس، فقال يمدح قوماً من قريش في أرجوزةٍ وصف فيها الحمام:
بِشْرُهُمُ قبلَ النَّوالِ اللاَّحِقِ ... كالْبَرْقِ يبدوُ قبلَ جُودٍ دَافِقِ
والغيثُ يخْفَي وقْعُه للرَّامقِ ... ما لم تَجِدْهُ بِدَليلِ البارقِ
ومن تبحر شعر أبي تمام وجد كل محسنٍ بعده لائذاً به، كما أن كل محسنٍ بعد بشارٍ لائذ ببشار، ومنتسب إليه من أكثر إحسانه، قال أبو تمام:
فَسَواءٌ إِجَابَتِي غَيْرَ دَاعِ ... وَدُعَائي بالقَاعِ غَيْرَ مُجيبِ
فقال البحتري نسخاً له:
وسأَلْتَ مَنْ لا يستجيبُ فكنتَ في اس ... تِخْبارِهِ كمجيبِ مَنْ لا يَسْأَلُ
وقال أبو تمام:
إذا القصائدُ كانتْ مِن مدائِحِهِمْ ... يوماً فأَنْتَ لَعَمْرِي من مدائِحها
فقال البحتري:
ومَنْ يَكنْ فاخِراً بِالشعرِ يُذكر في ... أَصنافِهِ فَبِكَ الأشْعارُ تَفتِخر
وقال أبو تمام:
وإذا أرادَ اللهُ نَشْرَ فَضيلةٍ ... طُويتْ أَتاحَ لها لِسَانَ حَسُودِ
فقال البحتري:
ولنْ تَسْتبينَ الدهرَ مَوْضعَ نِعْمةٍ ... إذا أنت لم تُدْلَلْ عليها بحَاسِدِ
وقال أبو تمام:
بُخْلٌ تَديِنُ بِحُلْوِهِ وَبِمُرِّهِ ... فكأَنَّهُ جُزْءٌ منَ التَّوحِيدِ
فقال البحتري:
وَتَدَيُّنٌ بِالبُخْلِ حَتَّى خِلْتُهُ ... فَرْضاً يُدَانُ به الإلهُ ويُعْبدُ
وقال أبو تمام:
أوْ يَخْتَلِفْ مَاءُ الوِصَالِ فَماؤُنَا ... عَذْبٌ تَحَدَّرَ مِنْ غَمامٍ وَاحِدِ
وإنما أخذه أبو تمام من قول الفرزدق:
يا بشْرُ أَنْتَ فَتَى قريشٍ كُلِّها ... وِيِشِي وريشُكَ من جناحٍ واحِدِ
فقال البحتري:
وَأَقَلُّ ما بيْنِي وبينَكَ أَننا ... نَرْمِي القبائلَ عَنْ قَبيلٍ واحدِ
وقال أبو تمام:
ثَوَى بالمشْرِقيْنِ لهم ضَجَاجٌ ... أَطَارَ قُلوبَ أَهْلِ المغربيْنِ
وإنما أخذه أبو تمام من قول مسلم:
لما نَزَلْتَ على أَدْنَى بِلاَدِهِمِ ... أَلْقَى إليكَ الأقاصِي بالمقاليدِ
فقال البحتري:
غَدا غَدْوَةً بَيْن المشارقِ إذ غَدَا ... فَبَثَّ حَرِيقاً في أقاصِي المغارِبِ
وجاذبني يوماً بعض من يتعصب على أبي تمام بالتقليد لا بالفهم، ويقدم غيره بلا درايةٍ فقال: أيحسن أبو تمام أن يقول كما قال البحتري:
تَسَرَّعَ حتى قال مَنْ شَهِدَ الوَغَى ... لِقاءُ أَعَادٍ أمْ لقاءُ حبائبِ؟
فقلت له: وهل افتض هذا المعنى قبل أبي تمام أحد في قوله:
حَنَّ إلى المَوْتِ حَتَّى ظَنَّ جَاهِلُهُ ... بأنه حَنَّ مُشْتَاقاً إلَى وَطَنِ
ولولا أنَّ بعض أهل الأدب ألف في أخذ البحتري من أبي تمام كتابا، لكنت قد سقت كثيراً مثل ما ذكرنا، ولكنني أكره إعادة ما ألف، وأجتنب أن أجتذب من الأدب ما ملك قبلي، إلا أنني سآتي بأبياتٍ من جملة ذلك تدل على جميعه إن شاء الله: قال أبو تمام: