سمعت الحسن بن الحسن بن رجاء يحدث أبا سعيد الحسن بن الحسين الأزدي، أن أباه رأى أبا تمام يوماً يصلي صلاةً خفيفةً، فقال له: أتم يا أبا تمام. فلما انصرف من صلاته قال له: قصر المال، وطول الأمل، ونقصان الجدة، وزيادة الهمة، يمنع من إتمام الصلاة، لا سيما ونحن سفر، فكان أبي يقول: وددت أنه يعاني فروضه كما يعاني شعره، وأني مغرم ما يثقل غرمه؟.
وقد ادعى قوم عليه الكفر بل حققوه، وجعلوا ذلك سبباً للطعن على شعره، وتقبيح حسنه، وما ظننت أن كفراً ينقص من شعرٍ، ولا أن إيماناً يزيد فيه. وكيف يحقق هذا على مثله، حتى يسمع الناس لعنه له، من لم يشاهده ولم يسمع منه، ولا سمع قول من يوثق به فيه؟ وهذا خلاف ما أمر الله عز وجل، ورسوله عليه السلام به، ومخالف لما عليه جملة المسلمين. لأن الناس على ظاهرهم حتى يأتوا بما يوجب الكفر عليهم بفعلٍ أو قولٍ، فيرى ذلك أو يسمع منهم، أو يقوم به بينة عليهم.
واحتجوا برواية أحمد بن أبي طاهر، وقد حدثني بها عنه جماعة أنه قال: دخلت على أبي تمام وهو يعمل شعراً، وبين يديه شعر أبي نواس ومسلمٍ، فقلت: ما هذا؟ قال: اللات والعزى، وأنا أعبدهما من دون الله مذ ثلاثون سنةً.
وهذا إذا كان حقاً فهو قبيح الظاهر، ردئ اللفظ والمعنى، لأنه كلام ماجنٍ مشعوفٍ بالشعر. والمعنى أنهما قد شغلاني عن عبادة الله عز وجل، وإلا فمن المحال أن يكون عبد اثنين لعله عند نفسه أكبر منهما، أو مثلهما، أو قريب منهما. على أنه ما ينبغي لجادٍ ولا مازحٍ أن يلفظ بلسانه، ولا يعتقد بقلبه، ما يغضب الله عز وجل، ويتاب من مثله؛ فكيف يصح الكفر عند هؤلاء على رجلٍ، شعره كله يشهد بضد ما اتهموه به، حتى يلعنوه في المجالس؟ ولو كان على حال الديانة لأغروا من الشعراء بلعن من هو صحيح الكفر، واضح الأمر، ممن قتله الخلفاء - صلوات الله عليهم - بإقرارٍ وبينةٍ، وما نقصت بذلك رتب أشعارهم، ولا ذهبت جودتها، وإنما نقصوا هم في أنفسهم، وشقوا بكفرهم.
وكذلك ما ضر هؤلاء الأربعة، الذين أجمع العلماء على أنهم أشعر الناس: امرأ القيس والنابغة الذبياني وزهيراً والأعشى، كفرهم في شعرهم، وإنما ضرهم في أنفسهم. ولا رأينا جريراً والفرزدق يتقدمان الأخطل عند من يقدمهما عليه بإيمانهما وكفره، وإنما تقدمهما بالشعر. وقد قدم الأخطل عليهما خلق من العلماء، وهؤلاء الثلاثة طبقة واحدة، وللناس في تقديمهم آراء.
حدثني القاسم بن إسماعيل قال، حدثنا أبو محمد التوجي عن خلف الأحمر قال: سئل حماد الراوية عن جريرٍ والفرزدق والأخطل أيهم أشعر؟ فقال: الأخطل، ما تقول في رجلٍ قد حبب إلى شعره النصرانية! وهذا أيضاً مزح من حماد، وفرط شعفٍ بشعر الأخطل. ولو تأول الناس عليه كما تأولوا على أبي تمام لكان ما قال قبيحاً، وما أحسب شعر أبي تمام، مع جودته وإجماع الناس عليه، ينقص بطعن طاعنٍ عليه في زماننا هذا، لأني رأيت جماعةً من العلماء المتقدمين، ممن قدمت عذرهم في قلة المعرفة بالشعر ونقده وتمييزه، وأريت أن هذا ليس من صناعتهم، وقد طعنوا على أبي تمامٍ في زمانهم وزمانه، ووضعوا عند أنفسهم منه، فكانوا عند الناس بمنزلة من يهذي، وهو يأخذ بما طعنوا عليه الرغائب من علماء الملوك، ورؤساء الكتاب، الذين هم أعلم الناس بالكلام منثوره ومنظومه، حتى كان هو يعطي الشعراء في زمانه ويشفع لهم؛ وكل محسنٍ فهو غلام له، وتابع أثره.
ومن الإفراط في عصبيتهم عليه، ما حدثني به أبو العباس عبد الله بن المعتز قال: حدثت إبراهيم بن المدبر - ورأيته يستجيد شعر أبي تمام ولا يوفيه حقه - بحديثٍ حدثنيه أبو عمرو بن أبي الحسن الطوسي، وجعلته مثلاً له، قال: وجه بي أبي إلى ابن الأعرابي لأقرأ عليه أشعاراً، وكنت معجباً بشعر أبي تمامٍ، فقرأت عليه من أشعار هذيل، ثم قرأت أرجوزة أبي تمام على أنها لبعض شعراء هذيل:
وعاذِلٍ عَذَلْتُهُ في عَذْلِهِ ... فَظَنَّ أَنَّي جَاهِلٌ مِن جَهْلِهِ
حتى أتممتها، فقال: اكتب لي هذه، فكتبتها له، ثم قلت: أحسنة هي؟ قال: ما سمعت بأحسن منها! قلت: إنها لأبي تمام فقال: خرق خرق!.