والذئب أخشاه أن خلوت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
فكذلك ما أشبهه منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره. وكذلك قولهم: إيّاك والشرّ وإيّاك والمراء منصوب بفعل لا يظهر. وكذلك قوله: الطويل اإّياك إيّاك المراء فانه إلى الشرّ دعاء وللشر جالب لا يجوز إظهار الناصب لا يّاك. والمراء منصوب بفعل مضمر غير الذي نصب إيّاك، والتقدير دع المراء، وإظهاره جائز. ونظائر هذا المضمر الذي لا يجوز إظهاره كثير في كلامهم وهو نحو قوله: ما أغفلك عنك شيئا، في تركهم إظهار الناصب للشيء، واستعمالهم إيّاه مضمرا علما ما فسّرت لك.
ومضمر لا يجوز أن يستعمل ألا بعد موافقة المخاطب عليه وذلك إن تصير إلى رجل لم يخطر بباله ضرب زيد ولا إكرامه فغير جائز أن تقول له: زيدا، فتنصبه بفعل مضمر لأنه لا دليل عليه. فعلى هذه الأوجه الثلاثة إضمار الأفعال في كلام العرب فقس عليه إن شاء الله.
حدثنا أبو بكر محمد بن محمود بن محمد الواسطي بواسط قان حدثنا احمد بن سعيد الزهري قال حدثنا مكرم بن محرز بن المهدي عن عبد الرحمن بن عمرو الخزاعي من ولد أم معبد بقديد قال حدثني أبي محرز ابن المهدى عن جدّه حكيم بن هشام عن أبيه حبيش بن خالد قتيل البطحاء يوم الفتح إن النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة خرج منها مهاجرا هو وأبو بكر ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة، ودليلهم عبد الله بن الأرقط فمروا على خيمتي أم معبد الخزاعية وكانت برزة جلدة تختبئ بفناء القبة ثم تطعم وتسقى فسألوها لحما وتمرا يشترونه منها فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وكان القوم مرملين مشتين فنظر صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم. قال: هل بها من لبن؟ قالت. هي أجهد من ذلك. قال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبا فاحلبها. فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرها وسمي الله عز وجلّ ودعا لها في شاتها فتفاجَّتْ عليه ودرّت واجترّتْ. فدعا بإناءُ يُربض الرهْط فحلبت فيه ثّجاَ حتى علاه البهاء ثم سقاها حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا وشرب آرهم ثم ازداد. ثم حلبها ثانيا بعد بدء حتى ملا الإناء ثم غادره عندها وبايعها وارتحل عنها. فقلّما لبث حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً جافاً يتساوكن هزلي ضجا هدّ هن قليل. فلما رأى أبو معبد عجب فقال: من أين لك هذا يا أم معبد والشاء عازب حيالّ، ولا حلوب في البيت؟ قالت: والله إلاّ أنه مرّ بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا: قال: صفيه لي يا أم معبد؟ قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة بلج الوجه، حسن الوجه، لم يعبه ثجلةَ ولم يزر صُقْلةَ، وسيما جسيما. أو قالت: فيما شك أبو ابرهة في عينيه دعج، وفي أشفاره غطف، وفي عنقه سطَعَ، وفي صوته صَحَل. ازج أقرن. إن صمت فعليه الوقار، وان تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب. حلو المنطق، فصل لا نزَْر ولا هذَر كأن منطقه خرزات نظم يتحدّرن من سمط، راحة لا بائن من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين فهو انظر الفتية عودا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفّون به، إن قال أنصتوا لقوله، وان أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا معتدّ. فقال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش الذي كنا نحدث عنه بمكة ما نحدث. ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن ذلكَ إن وجدت إليه سبيلا. فأصبح صوت بمكة يسمعونه عاليا ولا يدرون من صاحبه وهو يقول: الطويل
جزى الله رب الناس حين جزائه ... رفيقين نالا خيمتي أم معبد
هما نزلاها بالهدى فاهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيا لقصيَّ ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا يجازى وسؤدد
ليهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلو أختكم عن شائها وأمائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاء لشاة حائل فتحبلت ... له بصريح ضرة الشاة تزبد
فلما سمع حساّن بن ثابت الأنصاري هذا الشعر أجاب الهاتف بقوله: الطويل
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهّم ... وقد سرّ من يسرى إليه ويغتدي