وقال الفراء وأصحابه: لم تجزم الأسماء لأنها خفيفة فلو جزموها زادوا في خفتها. ولم تخفض الأفعال لثقلها فلو خفضوها زادوا في ثقلها فعدلوا الكلام بان خفضوا الأسماء وجزموا الأفعال ليدخل الثقيل على الخفيف والخفة على الثقيل فيعتدل. وقال جماعة من البصريين وجماعة من أهل النظر منهم المبرد وثعلب لم تجزم الأسماء لاستحالة دخول حرف الجزم عليها لان الحروف الجوازم إنما هي للنفي والأمر والنهي والجزاء وما لا يؤول معناه إلى أحد هذه المعاني نحو لم ولام الأمر ولا النهي وحروف الجزاء إن ومهما وما أشبه ذلك. ومحال نفي الأسماء لأن العقول تدل ضرورة على إن النفي لا يقع على الاسم ولا على المسمى وإنما يقع على حال من أحواله أو فعل من أفعاله أو صفة من صفاته كقولك: ليس زيد عاقلا، إنما نفيت عقله، وليس زيد في الدار، إنما نفيت كونه في الدار، وكذلك: لم يقم زيد ولم ينطق عبد الله، ولا غلام لك، وما أشبه ذلك. لا يتعلق النفي بالمسمى نفسه وإنما يتعلق بأفعاله وأخباره وحلاه، وهذا المتفق عليه عند أهل النظر، والعقول تشهد بصحته. وكذلك الأمر والنهي والجزاء وما أشبه ذلك إنما تكون بالأفعال. قال: زعم زاعم إن الأسماء يتصل النفي بها بذاتها غير مراد بذلك عدم الذات من زمان أو مكان موجود فيه فليدل على صحة ذلك بها تشهد العقول بصحته ولن يجد إليه سبيلا، وليس بين العلماء فيما ذكرناه في النفي خلاف وكفى لمخالف هذا بخروجه عما تشهد الجماعة بصحته دليلا على خطئه وانقطاعه. واعلم إن انقطاع الخصم ليس يكون بسكوته وانقطاعه فقط. وقد رتب العلماء للانقطاع مؤلفات وبينوا لها وجوها، فمنها أن يعقد الإنسان مذهبا في الففه والنحو والنظر وسائر العلوم فيلقى خصما له مخالفا في مذهبه مقرر بينهما الخلاف فيتناظران في مسألة، فلا يزال أحدهما يلز الأخر بالاحتجاج عليه إلى أن يضطر صاحبه إلى أن يعتقد ما يخالف مذهبه الذي ينصره، فان اعتقد ذلك فقد انقطع بخروجه عن مذهبه الذي ابتدأ النظر فيه وكابر في انتقاله، فان لم يعتمد ما الجاه إليه واتى بما يدفع خصمه بحجة واضحة فقد قارب. وان لم يمكنه ذلك واقرّ بالحق فقد انقطع منصفا سالكا طريقة النظر. وكان اعذر من الأول المكابر.
والضرب الثاني من الانقطاع أن لا تطرد العلّة في المعلول. والضرب الثالث هو أن يؤول الأمر بمن يناظره إلى أن يعتقد المحال ويقول هو حق إذا كان بزعمه مؤيدا مذهبه، وكفى بمذهب يؤيده المحال فسادا. كأنه يعتقد أن يكون جسم واحد متحركا ساكنا في حال أو لا ساكنا متحركا، أو موجودا معدوما في حال. أو يكون الإنسان قائما قاعدا في حال أو ناطقا ساكنا أو متحركا ساكنا أو يقول إذ النار مبردة والماء مسخن. ويزعم أن أمس لم ينقض بعد وان غدا حاضر أو قد انقضى. وما أشبه ذلك من المحاولات.
ومثله في الإحالة قول من زعم أنا إذا قلنا: لم يقم زيد، أو لم زيد قام، لو حسن ذلك إن النفي واقع على ذات زيد لا على فعله ليس بين هذا والأول فرق في الإحالة عند من صح عقله وتمييزه ومن آل به أمر إلى هذا فقد انقطع وتقطعت جوارحه ولن ينفعه الكلام إذ قد بان سقوطه وانقطاعه وليس في طاقة خصمه أن يجبره على السكوت، وما عليه اكثر مما بينّه.
والضرب الآخر من الانقطاع أن يرد على الخصم ما لا يعرف وجهته فيقر بالحق ويقول: ليس عندي في هذا الوقت جواب وأنا أذكر فيه. فهذا هو مذهب العلماء وليس هذا المقر بما ورد عليه ينقص عن مرتبة العلم باتصافه بل هو في ذلك يزداد باتصافه عند العلماء جلالة.
اخبرنا الرجاج قال: سمعت المبرد يقول روى عن الشعبي انه قيل له: أما تستحيَ من كثرة ما تقول إذا سئلت لا ادري؟ فقال: لكن ملائكة الله المقربين لم يستحيوا إن سئلوا عما لا علم لهم به فقالوا: سبحانك لا علم لنا إلا فاعلمنا.
اخبرنا احمد بن الحسن بن سفيان قال اخبرنا احمد بن عبيد بن ناصح قال: وفد عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير على جعفر ومحمد ابني سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس فتوسلا له إلى المهدي حتى ادخلاه عليه، فأمر بأموال ورقيق فقال: الطويل
سقى الله أطلالا ونعمة ... إلى ملحز إذ يسكن الحي محلزا
نحاها من بهتان رعية ... وأخرى شمالي إذا ما ترحزا