يكفر الصغائر بموجب قوله تَعَالَى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نكفر عنكم سيئاتكم ولكن اجْتِنَابَ الْكَبِيرَةِ إِنَّمَا يُكَفِّرُ الصَّغِيرَةَ إِذَا اجْتَنَبَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ كَمَنْ يَتَمَكَّنُ مِنِ امْرَأَةٍ ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع فيقتصر على نظر أو لمس فإن مجاهدة نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيراً في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره فإن كان عنينا أو لم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادراً ولكن امتنع لخوف أمر آخر فهذا لا يصلح للتكفير أصلاً وكل من يشتهي الخمر بطبعه ولو أبيح له لما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي هي مقدماته كسماع الملاهي والأوتار نعم من يشتهي الخمر وسماع الأوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر ويطلقها في السماع فمجاهدته النفس بالكف ربما تمحو عن قلبه الظلمة التي ارتفعت إليه من معصية السماع فكل هذه أحكام أخروية ويجوز أن يبقى بعضها في محل الشك وتكون من المتشابهات فلا يعرف تفصيلها إلا بالنص ولم يرد النص بَعْدُ وَلَا حَدٌّ جَامِعٌ بَلْ وَرَدَ بِأَلْفَاظٍ مختلفات فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة إلى الصلاة كفارة ورمضان إلى رمضان كفارة إلا من ثلاث إشراك بالله وترك السنة ونكث الصفقة (?) قيل ما ترك السنة قيل الخروج عن الجماعة ونكث الصفقة أن يبايع رجلاً ثم يخرج عليه بالسيف يقاتله فهذا وأمثاله من الألفاظ لا يحيط بالعدد كله ولا يدل على حد جامع فيبقى لا محالة مبهماً
فإن قلت الشهادة لا تقبل إلا ممن يجتنب الكبائر والورع عن الصغائر ليس شرطاً في قبول الشهادة وهذا من أحكام الدنيا فاعلم أنا لا نخصص رد الشهادة بالكبائر فلا خلاف في أن من يسمع الملاهي ويلبس الديباج ويتختم بخاتم الذهب ويشرب في أواني الذهب والفضة لا تقبل شهادته ولم يذهب أحد إلى أن هذه الأمور من الكبائر وقال الشافعي رضي الله عنه إذا شرب الحنفي النبيذ حددته ولم أرد شهادته فقد جعله كبيرة بإيجاب الحد ولم يرد به الشهادة فدل على أن الشهادة نفياً وإثباتاً لا تدور على الصغائر والكبائر بل كل الذنوب تقدح في العدالة إلا ما لا يخلو الإنسان عنه غالباً بضرورة مجاري العادات كالغيبة والتجسس وسوء الظن والكذب في بعض الأقوال وسماع الغيبة وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأكل الشبهات وسب الولد والغلام وضربهما بحكم الغضب زائداً على المصلحة وإكرام السلاطين الظلمة ومصادقة الفجار والتكاسل عن تعليم الأهل والولد جميع ما يحتاجون إليه من أمر الدين فهذه ذنوب لا يتصور أن ينفك الشاهد عن قليلها أو كثيرها إلا بأن يعتزل الناس ويتجرد لأمور الآخرة ويجاهد نفسه مدة بحيث يبقي على سمعته مع المخالفة بعد ذلك ولو لم يقبل إلا قول مثله لعز وجوده وبطلت الأحكام والشهادات وليس لبس الحرير وسماع الملاهي واللعب بالنرد ومجالسة أهل الشرب في وقت الشرب والخلوة بالأجنبيات وأمثال هذه الصغائر من هذا القبيل فإلى مثل هذا المنهاج ينبغي أن ينظر في قبول الشهادة وردها لا إلى الكبيرة والصغيرة ثم آحاد هذه الصغائر التي لا ترد الشهادة بها لو واظب عليها لأثر في رد الشهادة كمن اتخذ الغيبة وثلب الناس عادة وكذلك مجالسة الفجار ومصادقتهم والصغيرة تكبر بالمواظبة كما أن المباح يصير صغيرة بالمواظبة كاللعب بالشطرنج والترنم بالغناء على الدوام وغيره فهذا بيان حكم الصغائر والكبائر