ولا وجود للفرع دون الأصل ولا فرق بين الأصل والفرع إلا في شيء واحد وهو أن وجود الفرع وبقاءه جميعاً يستدعي وجود الأصل وأما وجود الأصل فلا يستدعي وجود الفرع فبقاء الأصل بالفرع ووجود الفرع بالأصل فعلوم المكاشفة وعلوم المعاملة متلازمة كتلازم الفرع والأصل فلا يستغني أحدهما عن الآخر وإن كان أحدهما في رتبة الأصل والآخر في رتبة التابع وعلوم المعاملة إذا لم تكن باعثة على العمل فعدمها خير من وجودها فإن هي لم تعمل عملها الذي تراد له قامت مؤيدة للحجة على صاحبها ولذلك يزاد في عذاب العالم الفاجر على عذاب الجاهل الفاجر كما أوردنا من الأخبار في كتاب العلم
اعلم أن ظاهر الكتاب قد دل على هذا إذ قال تعالى وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحون فعمم الخطاب ونور البصيرة أيضاً يرشد إليه إذ معنى التوبة الرجوع عن الطريق المبعد عن الله المقرب إلى الشيطان ولا يتصور ذلك إلا من عاقل ولا تكمل غريزة العقل إلا بعد كمال غريزة الشهوة والغضب وسائر الصفات المذمومة التي هي وسائل الشيطان إلى إغواء الإنسان إذ كمال العقل إنما يكون عند مقاربة الأربعين وأصله إنما يتم عند مراهقة البلوغ ومباديه تظهر بعد سبع سنين والشهوات جنود الشيطان والعقول جنود الملائكة فإذا اجتمعا قام القتال بينهما بالضرورة إذ لا يثبت أحدهما للآخر لأنهما ضدان فالتطارد بينهما كالتطارد بين الليل والنهار والنور والظلمة ومهما غلب أحدهما أزعج الآخر بالضرورة وإذا كانت الشهوات تكمل في الصبا والشباب قبل كمال العقل فقد سبق جند الشيطان واستولى على المكان ووقع للقلب به أنس وإلف لا محالة مقتضيات الشهوات بالعادة وغلب ذلك عليه ويعسر عليه النزوع عنه ثم يلوح العقل الذي هو حزب الله وجنده ومنقذ أوليائه من أيدي أعدائه شيئاً فشيئاً على التدريج فإن لم يقو ولم يكمل سلمت مملكة القلب للشيطان وأنجز اللعين موعده حيث قال {لأحتنكن ذريته إلا قليلاً} وإن كمل العقل وقوي كان أول شغله قمع حنود الشيطان بكسر الشهوات ومفارقة العادات ورد الطبع على سبيل القهر إلى العبادات ولا معنى للتوبة إلا هذا وهو الرجوع عن طريق دليله الشهوة وخفيره الشيطان إلى طريق الله تعالى وليس في الوجود آدمي إلا وشهوته سابقة على عقله وغريزته التي هي عدة الشيطان متقدمة على غريزته التي هي عدة الملائكة فكان الرجوع عما سبق إليه على مساعدة الشهوات ضرورياً في حق كل إنسان نبياً كان أو غبياً فلا تظنن أن هذه الضرورة اختصت بآدم عليه السلام وقد قيل
فلا تحسبن هنداً لها الغدر وحدها ... سجية نفس كل غانية هند
بل هو حكم أزلي مكتوب على جنس الإنس لا يمكن فرض خلافه ما لم تتبدل السنة الإلهية التي لا مطمع في تبديلها فإذن كل من بلغ كافراً جاهلاً فعليه التوبة من جهله وكفره فإذا بلغ مسلماً تبعاً لأبويه غافلاً عن حقيقة إسلامه فعليه التوبة من غفلته بتفهم معنى الإسلام فإنه لا يغني عنه إسلام أبويه شيئاً ما لم يسلم بنفسه فإن فهم ذلك فعليه الرجوع عن عادته وإلفه للاسترسال وراء الشهوات من غير صارف بالرجوع إلى قالب حدود الله في المنع والإطلاق والانفكاك والاسترسال وهو من أشق أبواب التوبة وفيه هلك الأكثرون إذ عجزوا عنه وكل هذا رجوع وتوبة فدل على أن التوبة فرض عين في حق كل شخص يتصور أن يستغني عنها أحد من البشر كما لم يستغن آدم فخلقة الولد لا تتسع لما لم يتسع له خلقة الوالد أصلاً وأما بيان وجوبها عَلَى الدَّوَامِ وَفِي كُلِّ حَالٍ فَهُوَ