إذاً: انعقد الإجماع بين العلماء على استحباب صلاة الجماعة في المسجد للرجل، أما بالنسبة للمرأة فقد انفردت بهذا، وأجمعت الأمة على أنه لا يستحب للمرأة أن تخرج إلى المسجد ولو للعلم أو للصلاة أو للحفظ أو غير ذلك، قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، فالأفضل للمرأة أن تقر في بيتها.
وفي مسند أحمد بسند صحيح عن أم حميد الساعدية أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاة في مسجدي هذا)، أي: في المسجد النبوي.
وأجمل من ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن)، فـ أم حميد لما سمعت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم وعلمت أن السنة أن تقر في بيتها، أمرت الناس أن يبنوا لها مسجداً في بيتها فقرت فيه، فلم تخرج منه حتى ماتت ولقت ربها، فرضي الله عنها من امرأة أطاعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يقول.
وهذا يؤكده قول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، والصحيح الراجح: أنه يجوز للمرأة أن تخرج للمسجد وتشهد الجمعة والجماعات لكنه خلاف الأولى.
وعن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كما في الصحيح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، فقامت امرأة عمر لتخرج إلى المسجد، فهيأت نفسها ذات يوم فأرادت أن تخرج إلى المسجد، فقال ابنه: أما علمت غيرة أبي؟ فقالت: أو يمنعني عمر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)؟ وفي واقعة أخرى: أن عمر قال لها: إلى أين تذهبين يا لكع؟ فقالت له: أذهب إلى المسجد، فوقف حائراً، فقالت: أتمنعني؟ فخشي على نفسه، فقال: لا أمنعك ولكن أكره، يعني: أكره خروجك، فلم تعبأ بالكلام وخرجت إلى المسجد عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله).
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (كانت نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن) فالنساء كن يخرجن إلى المساجد، وصلاة المرأة جائزة في المساجد، ولا إنكار عليهن، مع أنه خلاف الأولى.
بل وفي حديث صحيح عن ابن عمر: (كن يتوضأن بجانب الرجال)، أي: كان المكان الذي يتوضأ فيه الرجال والنساء مكاناً واحداً، فكان الرجال يولون ظهورهم للنساء، ويولي النساء ظهورهن للرجال، فلا هذا يطلع على هذا ولا هذا يطلع على هذا، وهذا الظن بالصحابة رضوان الله عليهم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى النساء في المسجد، ويحترم مكانهن، فقال: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها) وهذه دلالة على أنه كان يسوي هذه الصفوف، (وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها).
وأيضاً: كان يمنع النساء أن ترفع قبل أن يرفع الإمام، وكان إذا انتهى من صلاته أخر الرجال حتى تخرج النساء من المسجد؛ احتراماً لوجود النساء، ففي هذا دلالة على جواز خروج النساء للمسجد، وإن كان خلاف الأولى.
وهذا القول هو قول الجماهير، وما خالف فيه إلا عائشة وابن مسعود، فقالا: بجواز خروج المرأة فقط في عصر النبوة، أما بعد عصر النبوة فعلى الكراهة أو على التحريم، والحديث صريح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها كانت تقول: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثت النساء بعده لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل.
وأيضاً: قال ذلك ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وقال بذلك أيضاً: ولد لـ عبد الله بن عمر عندما قال له: قال رسول الله: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) فقال: والذي نفسي بيده لنمنعهن، أي: إذا دخلت المسجد للغيبة والنميمة والذهاب بالمكياج وغير المكياج والكلام فيما لا ينفع بل فيما يضر.
فهذه وجهة من الوجهات التي ظهرت لنا بأن عائشة رضي الله عنها وأرضاها وابن مسعود وولداً لـ عبد الله بن عمر يرون كراهة خروج المرأة، وأن الجواز كان في عصر النبوة فقط؛ لأن المرأة في عصر النبوة كانت تتحرى ألا تَفتن وألا تُفتن، ثم بعد ذلك اتخذت المرأة للفتنة، والدلالة على ذلك كما ورد في الصحيح: أن أبا هريرة رأى امرأة ذهبت إلى المسجد فاشتم رائحتها وكانت تصلي، فلما صلت قال لها: ارجعي فاغتسلي فأعيدي صلاتك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيما امرأة صلت متطيبة فلتغتسل ولتعد الصلاة) أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.
فالظاهر يدل على أن زمن النبوة كان فيه الحرص، والإرشاد من النبي ومن الصحابة الكرام، وبعد زمن النبوة أو بعد خروج الخيرية انتشر الفساد، فأولى بهن أن يجلسن في بيوتهن على قول عائشة رضي الله عنها وأرضاها.