معلوم أن الأصل في التشريع العموم، فالله جل في علاه خلق الخلق وهداهم هداية عامة وهداية خاصة وهداية أخص, فالهداية العامة كهداية الرجل كيف يأتي أهله، وهدايته كيف يتعايش في هذه الدنيا, أما الهداية الخاصة فهي هداية الدلالة والبيان، إذ أن الله خلق الخلق وبين لهم طريق الخير وشرع لهم الشرائع، والأصل في الأحكام التي تصدر عن الخالق جل في علاه أن تكون أحكاماً عامةً وليست خاصة، فلا تختص بعين ولا برجل ولا بامرأة ولا بطفل ولا بغيره, بل إنها تعم كل المكلفين.
وأدل الأدلة على ذلك ما يستدل به دائماً: قول الله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ} [الطلاق:1]، فمع أنه يخاطب ذات النبي إلا أنه يعمم في الأحكام، فيقول: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطلاق:1]، بلفظ الجمع فعمم الخطاب للأمة، وبذلك علم أن الأصل في التشريع: أن الأحكام على العموم تشمل النساء كما تشمل الرجال فلا خصوص لأحدهما دون الآخر، وقد قعد العلماء قاعدة مهمة لا تنفك عن طالب العلم، ولا يمكن أن يتركها أو أن يحيد عنها بل لا بد أن يتقنها، ألا وهي: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذه تدل على سعة الشريعة كما تدل على أن الأحكام على العموم؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فهذا أوس بن الصامت نزلت فيه آية الظهار، والظهار هو: أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي.
وآية الظهار هي: قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ} فهذه المرأة وهي خولة جاءت تشتكي للنبي صلى الله عليه وسلم أن زوجها قال لها: أنت علي كظهر أمي، وكان هذا الكلام في الجاهلية بمثابة الطلاق، وبينما هي تشتكي أنزل الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1]، فهذه الآيات لم يقل أحد من المسلمين أنها خاصة بـ أوس فقط أو بصخر فقط أو بفلان فقط, بل هي عامة لكل مسلم، فعلى كل من ظاهر امرأته ويريد الرجوع الكفارة؛ لأنه قد أتى منكراً من القول وزوراً, وبذلك علم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومثل ذلك أيضاً ما حدث لـ هلال بن أمية كما جاء في الصحيح أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الرجل إذا رأى على امرأته رجلاً ماذا يفعل؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك) وهو يعاود وينكر ذلك في نفسه حتى قال: إن الله جل في علاه سيظهر براءتي أو يظهر ما أنا فيه، فأنزل الله آية اللعان، ومع أنها نزلت في هلال بن أمية إلا أنه لم يقل أحد من العامة أو الخاصة أن هذه الآية تخص هلالاً فقط، بل هي عامة لكل من يلاعن امرأته، فتأكد أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فهمنا وعلمنا الأخذ بهذه القاعدة قولاً وفعلاً، أما القول: فقد جاء في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله! طهرني! أقم علي الحد! إني قبلت امرأة -وفي رواية في السنن- قال: أتيت من المرأة ما يأتي الزوج من زوجه إلا الوطء -أي: الجماع، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ينتظر الوحي ثم صلى, فصلى الرجل مع النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عليه آيات كريمات فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم! صليت معنا؟ فقال: نعم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم قارئاً له هذه الآية العظيمة): {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السيئات) [هود:114]، والشاهد هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن نأخذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب بالقول، فقال له الرجل: يا رسول الله! لي خاصة -يعني: هذا خاص بي، فإني لما فعلت ذلك أنزل الله جل وعلا في ذلك وهو أني لو صليت فإن الحسنات تذهب السيئات، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم -وهي قاعدة عامة لكل المكلفين- قال: (بل لأمتي عامة) فبينما نزلت الآية في هذا الرجل خاصة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وهذا من ناحية القول، أما الفعل: فقد جاء في الصحيح وفي غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب زائراً لـ فاطمة رضي الله عنها وأرضاها وعلي بن أبي طالب فكانا نائمين فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تصليان في الليل، فقال علي بن أبي طالب: يارسول الله! إن أنفسنا بيد الله فإن شاء بعثنا وإن شاء لم يبعثنا، فولى النبي صلى الله عليه وسلم ظهره له وضرب على فخذه وقرأ قول الله تعالى: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54] فدل فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفهم الناس وأعلم الناس بمراد رب الناس إذ هو رسول رب الناس إلى الناس صلى الله عليه وسلم: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ووجه الدلالة في هذه الآية: أنها جاءت بعد قوله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا * وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا * وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف:52 - 53]، فالسياق في الآيات يتحدث عن الكفار، إذ أنها نزلت فيهم فلو كانت العبرة بخصوص السبب لم يصح الاحتجاج بها إلا على كل مجادل يخاصم في توحيد الله جل في علاه، لكن لما كانت العبرة بعموم اللفظ خاطب النبي صلى الله عليه وسلم علياً بها واحتج عليه بها، وهو سيد الموحدين ورابع الخلفاء الراشدين، وبذلك يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب, فبالرغم أن علياً موحد والآية نزلت في الكفار إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم يعمم مفهوم الآية ويقول لـ علي بن أبي طالب ما معناه: تجادلني في ذلك، نعم! الأرواح بيد الله، وهذا قضاء، فلم تحتج بالقضاء؟ ولو أخذت بالسبب في القيام فقلت لأحد من أهلك أن يوقظك في الليل حتى تصلي, وكأنه لما جادل علي بن أبي طالب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أرواحنا بيد الله فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54] اعتبر ذلك تأويلاً من النبي صلى الله عليه وسلم لهذا القرآن على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
إذاً: فالأحكام نزلت عامة تعم كل المكلفين، وعلى ذلك جماهير الأصوليين والعلماء والأئمة الأربعة يقولون: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.