بَطَلَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ لِمُشَاوَرَتِهِ إيَّاهُمْ فَائِدَةٌ تُسْتَفَادُ بِهَا وَأَنْ يَكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ طَرِيقٌ مِنْ الِارْتِئَاءِ وَالِاجْتِهَادِ, فَجَائِزٌ حِينَئِذٍ أَنْ تُوَافِقَ آرَاؤُهُمْ رَأْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَائِزٌ أَنْ يُوَافِقَ رَأْيُ بَعْضِهِمْ رَأْيَهُ وَجَائِزٌ أَنْ يُخَالِفَ رَأْيَ جَمِيعِهِمْ فَيَعْمَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ بِرَأْيِهِ, وَيَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعَنِّفِينَ فِي اجْتِهَادِهِمْ بَلْ كَانُوا مَأْجُورِينَ فِيهِ لِفِعْلِهِمْ مَا أُمِرُوا بِهِ, وَيَكُونُ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ تَرْكُ آرَائِهِمْ وَاتِّبَاعُ رَأْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُشَاوَرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُشَاوِرَهُمْ فِي الْمَنْصُوصَاتِ, وَلَا يَقُولُ لَهُمْ مَا رَأْيُكُمْ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ؟ وَلَمَّا لَمْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ الدِّينِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فِي أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُشَاوَرَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيهِمَا جَمِيعًا وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ مُشَاوَرَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا إنَّمَا كَانَتْ تَكُونُ فِي مُحَارَبَةِ الْكُفَّارِ وَمُكَابَدَةِ الْعَدُوِّ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدْبِيرٌ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ وَمَعَاشِهِ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُشَاوَرَةِ غَيْرِهِ لِاقْتِصَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى الْقُوتِ وَالْكَفَافِ الَّذِي لَا فَضْلَ فِيهِ, وَإِذَا كَانَتْ مُشَاوَرَتُهُ لَهُمْ فِي مُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ وَمُكَابَدَةِ الْحُرُوبِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ, وَلَا فَرْقَ بَيْنَ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِيهِ وَبَيْنَهُ فِي أَحْكَامِ سَائِرِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا نُصُوصَ فِيهَا; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَعَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٍ وَعَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ مَعَهُمْ وَيَعْمَلُ بِمَا يَغْلِبُ فِي رَأْيِهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ ذِكْرِ الْمُشَاوَرَةِ: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} وَلَوْ كَانَ فِيمَا شَاوَرَ فِيهِ شَيْءٌ مَنْصُوصٌ قَدْ وَرَدَ التَّوْقِيفُ بِهِ مِنْ اللَّهِ لَكَانَتْ الْعَزِيمَةُ فِيهِ مُتَقَدِّمَةً لِلْمُشَاوَرَةِ; إذْ كَانَ وُرُودُ النَّصِّ مُوجِبًا لِصِحَّةِ الْعَزِيمَةِ قَبْلَ الْمُشَاوَرَةِ, وَفِي ذِكْرِ الْعَزِيمَةِ عَقِيبَ الْمُشَاوَرَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا صَدَرَتْ عَنْ الْمَشُورَةِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ قَبْلَهَا.

قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} قُرِئَ: "يُغَلُّ" بِرَفْعِ الْيَاءِ, وَمَعْنَاهُ يُخَانُ. وَخُصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ خِيَانَةُ سَائِرِ النَّاسِ مَحْظُورَةً, تَعْظِيمًا لِأَمْرِ خِيَانَتِهِ عَلَى خِيَانَةِ غَيْرِهِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] وَإِنْ كَانَ الرِّجْسُ كُلُّهُ مَحْظُورًا وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِاجْتِنَابِهِ; وَرُوِيَ هَذَا التَّأْوِيلُ عَنْ الْحَسَنِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْله تَعَالَى: "يُغَلَّ" بِرَفْعِ الْيَاءِ: "إنَّ مَعْنَاهُ يُخَوَّنُ فَيُنْسَبُ إلَى الْخِيَانَةِ" وَقَالَ: "نَزَلَتْ فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ فُقِدَتْ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا, فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ".

وَمَنْ قَرَأَ: {يَغُلَّ} بِنَصْبِ الْيَاءِ, مَعْنَاهُ: يَخُونُ, وَالْغُلُولُ الْخِيَانَةُ فِي الْجُمْلَةِ, إلَّا أَنَّهُ قَدْ صَارَ الْإِطْلَاقُ فِيهَا يُفِيدُ الْخِيَانَةَ فِي الْمَغْنَمِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015