الْعُقُولِ بَيْنَ مَنْ أَرَادَ ظُلْمَ نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ وَبَيْنَ مَنْ أَرَادَ ظُلْمَ إنْسَانٍ لِغَيْرِهِ, وَأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْقُبْحِ؟ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إرَادَتُهُ لِلظُّلْمِ مُنْتَفِيَةً مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ.

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} قيل في معنى قوله: {كُنْتُمْ} وُجُوهٌ: رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَعْنِي فِيمَا تَقَدَّمَتْ الْبِشَارَةُ وَالْخَبَرُ بِهِ مِنْ ذِكْرِ الْأُمَمِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ, قَالَ الْحَسَنُ: نَحْنُ آخِرُهَا, وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّهُ سَمِعَ, النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قَالَ: أَنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا, وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَكَانَ مَعْنَاهُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا أَنْبِيَاءَهُ فِيمَا أَنْزَلَ إلَيْهِمْ مِنْ كُتُبِهِ وَقِيلَ: إنَّ دُخُولَ" كَانَ" وَخُرُوجَهَا بِمَنْزِلَةِ" إلَّا" بِمِقْدَارِ دُخُولِهَا لِتَأْكِيدِ وُقُوعِ الْأَمْرِ لَا مَحَالَةَ; إذْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا قَدْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء: 96] {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 17] وَالْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ وُقُوعُ ذلك. وقيل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} بِمَعْنَى حَدَثْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ, فَيَكُونُ" خَيْرَ أُمَّةٍ" بمعنى الحال. وقيل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ, وَقِيلَ: كُنْتُمْ مُنْذُ أَنْتُمْ, لِيَدُلَّ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِمْ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ, وَلَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ اللَّهِ صِفَةَ مَدْحٍ إلَّا وَهُمْ قَائِمُونَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ ضَالِّينَ. وَالثَّانِي: إخْبَارُهُ بِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ فَهُوَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى; لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ هُوَ أَمْرُ اللَّهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْمُنْكَرَ, وَالْمُنْكَرُ هُوَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ, وَلَا يَسْتَحِقُّونَ هَذِهِ الصِّفَةَ إلَّا وَهُمْ لِلَّهِ رِضًى; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْكَرَتْهُ الْأُمَّةُ فَهُوَ مُنْكَرٌ وَمَا أَمَرَتْ بِهِ فَهُوَ مَعْرُوفٌ وَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي ذَلِكَ مَا يَمْنَعُ وُقُوعَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى ضَلَالٍ, وَيُوجِبُ أَنَّ مَا يَحْصُلُ عَلَيْهِ إجْمَاعُهُمْ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} الْآيَةَ, فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا أَعْدَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ حَوَالَيْ الْمَدِينَةِ بَنُو النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةُ وَبَنُو قَيْنُقَاعَ وَيَهُودُ خَيْبَرَ, فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يَضُرُّونَهُمْ إلَّا أَذًى مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ, وَأَنَّهُمْ مَتَى قَاتَلُوهُمْ وَلَّوْا الْأَدْبَارَ; فَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ, وَذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ.

قَوْله تَعَالَى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} وَهُوَ يَعْنِي بِهِ الْيَهُودَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُمْ. فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّ هَؤُلَاءِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015