حَتَّى لَا يُمْكِنَ تَغْيِيرُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْمُنْكَرِ, فَجَائِزٌ قَتْلُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُقِيمًا عَلَى ذَلِكَ, وَجَائِزٌ مَعَ ذَلِكَ تَرْكُهُمْ لِمَنْ خَافَ إنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ أَنْ يُقْتَلَ; إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ اجْتِنَابَهُمْ وَالْغِلْظَةَ عَلَيْهِمْ بِمَا أَمْكَنَ وَهِجْرَانَهُمْ. وَكَذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ مَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي الْمُوبِقَاتِ مُصِرًّا عَلَيْهَا مُجَاهِرًا بِهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ ذَكَرْنَا فِي وُجُوبِ النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَمْكَنَ وَتَغْيِيرِ مَا هُمْ عَلَيْهِ بِيَدِهِ, وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُنْكِرْهُ بِلِسَانِهِ, وَذَلِكَ إذَا رَجَا أَنَّهُ إنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِالْقَوْلِ أَنْ يَزُولُوا عَنْهُ وَيَتْرُكُوهُ, فَإِنْ لَمْ يَرْجُ ذَلِكَ, وَقَدْ غَلَبَ فِي ظَنِّهِ أَنَّهُمْ غَيْرُ قَابِلِينَ مِنْهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ مُنْكِرٌ عَلَيْهِمْ وَسِعَهُ السُّكُوتُ عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ يُجَانِبَهُمْ وَيُظْهِرَ هِجْرَانَهُمْ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فَلْيُغَيِّرْهُ بِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُغَيِّرْهُ بِقَلْبِهِ". وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ" قَدْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَزُولُوا عَنْ الْمُنْكَرِ فَعَلَيْهِ إنْكَارُهُ بِقَلْبِهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي تَقِيَّةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: "إنْ لَمْ يَسْتَطِعْ" مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إزَالَتُهُ بِالْقَوْلِ فَأَبَاحَ لَهُ السُّكُوتَ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] : مُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ مَا قُبِلَ مِنْك, فَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْك فَعَلَيْك نَفْسُك. وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَيْضًا الَّذِي قَدَّمْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ; لِأَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك نَفْسَك وَدَعْ عَنْك الْعَوَامَّ" يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: إذَا لَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَآرَاءَهُمْ فَأَنْتَ فِي سَعَةٍ مِنْ تَرْكِهِمْ وَعَلَيْك نَفْسَك وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامّ, وَأَبَاحَ تَرْكَ النَّكِيرِ بِالْقَوْلِ فِيمَنْ هَذِهِ حَالُهُ. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ: قَدْ أَعْيَانِي أَنْ أَعْلَمَ مَا فُعِلَ بِمَنْ أَمْسَكَ عَنْ الْوَعْظِ مِنْ أَصْحَابِ السَّبْتِ, فَقُلْت لَهُ: أَنَا أُعَرِّفُك ذَلِكَ, اقْرَأْ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ قَوْله تَعَالَى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [لأعراف: 165] قَالَ: فَقَالَ لِي: أَصَبْت وَكَسَانِي حُلَّةً. فَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَ مَنْ عَمِلَ السُّوءَ وَمَنْ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ, فَجَعَلَ الْمُمْسِكِينَ عَنْ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِمَنْزِلَةِ فَاعِلِيهِ فِي الْعَذَابِ. وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا رَاضِينَ بِأَعْمَالِهِمْ غَيْرَ مُنْكِرِينَ لَهَا بِقُلُوبِهِمْ, وَقَدْ نَسَبَ اللَّهُ تَعَالَى قَتْلَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ إلَى مَنْ كَانَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا مُتَوَالِينَ لِأَسْلَافِهِمْ الْقَاتِلِينَ لِأَنْبِيَائِهِمْ, بِقَوْلِهِ: {قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} [آل عمران: 183] وَبِقَوْلِهِ: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91] فَأَضَافَ الْقَتْلَ إلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرُوهُ, وَلَمْ يَقْتُلُوهُ; إذْ كَانُوا رَاضِينَ بِأَفْعَالِ الْقَاتِلِينَ; فَكَذَلِكَ أَلْحَقَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يَنْهَ عَنْ السُّوءِ مِنْ أَصْحَابِ السَّبْتِ بِفَاعِلِيهِ; إذْ كَانُوا بِهِ رَاضِينَ وَلَهُمْ عَلَيْهِ مُتَوَالِينَ. فَإِذَا كَانَ مُنْكِرًا لِلْمُنْكَرِ بِقَلْبِهِ, وَلَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهُ عَلَى غَيْرِهِ فهو غير داخل في وعيد فاعله, بل هو

طور بواسطة نورين ميديا © 2015