ذَلِكَ سَائِغٌ يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِهِ, كَاخْتِلَافِ حُكْمِ الطَّاهِرِ وَالْحَائِضِ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ, وَاخْتِلَافِ حُكْمِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فِي الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ. وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ. فَمِنْ حَيْثُ جَازَ وُرُودُ النَّصِّ بِاخْتِلَافِ أَحْكَامِ النَّاسِ فِيهِ فَيَكُونُ بَعْضُهُمْ مُتَعَبِّدًا بِخِلَافِ مَا تَعَبَّدَ بِهِ الْآخَرُ, لَمْ يَمْتَنِعْ تَسْوِيغُ الِاجْتِهَادِ فِيمَا يُؤَدِّي إلَى الْخِلَافِ الَّذِي يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ; وَلَوْ كَانَ جَمِيعُ الِاخْتِلَافِ مَذْمُومًا لَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ وُرُودُ الِاخْتِلَافِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ وَالتَّوْقِيفِ, فَمَا جَازَ مِثْلُهُ فِي النَّصِّ جَازَ فِي الِاجْتِهَادِ. وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْمُجْتَهِدَانِ فِي نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ, وَأُرُوشِ كَثِيرٍ مِنْ الْجِنَايَاتِ فَلَا يَلْحَقُ وَاحِدًا مِنْهَا لَوْمٌ, وَلَا تَعْنِيفٌ; وَهَذَا حُكْمُ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ. وَلَوْ كَانَ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاخْتِلَافِ مَذْمُومًا لَكَانَ لِلصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ, وَلَمَا وَجَدْنَاهُمْ مُخْتَلِفِينَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُتَوَاصِلُونَ يُسَوِّغُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِصَاحِبِهِ مُخَالَفَتَهُ مِنْ غَيْرِ لَوْمٍ, وَلَا تَعْنِيفٍ فَقَدْ حَصَلَ مِنْهُمْ الِاتِّفَاقُ عَلَى تَسْوِيَةِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاخْتِلَافِ. وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ وَثُبُوتِ حُجَّتِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ "اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ" وَقَالَ: "لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ" ; فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تعالى لم ينهنا بقوله: {وَلا تَفَرَّقُوا} عَنْ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاخْتِلَافِ. وَأَنَّ النَّهْيَ مُنْصَرِفٌ إلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا فِي النُّصُوصِ أَوْ فِيمَا قَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ أَوْ سَمْعِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا; وفي فحوى الآية ما يدل على أن الْمُرَادَ هُوَ الِاخْتِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ فِي أُصُولِ الدِّينِ لَا فِي فُرُوعِهِ, وَمَا يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِالِاخْتِلَافِ فِيهِ, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّفَرُّقَ الْمَذْمُومَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ هُوَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ لَا فِي فُرُوعِهِ, والله أعلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015