الْحِنْثِ بِأَكْلِ الْجُزْءِ مِنْهُ. بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: "وَاَللَّهِ لَا آكُلُ شَيْئًا مِنْهُ "; لِأَنَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْأَشْيَاءِ فَتَحْرِيمُهُ شَامِلٌ لِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ, وَكَذَلِكَ الْمُحَرِّمُ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ عَاقِدٌ لِلْيَمِينِ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ.

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: "لَمْ يُوضَعْ قَبْلَهُ بَيْتٌ عَلَى الْأَرْضِ". وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا قَالَا: "هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ". وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي بَكَّةَ, فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: "بَكَّةُ الْمَسْجِدُ وَمَكَّةُ الْحَرَمُ كُلُّهُ", وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "بَكَّةُ هِيَ مَكَّةُ". وَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ يَقُولُ: قَدْ تُبْدَلُ الْبَاءُ مِنْ الْمِيمِ, كَقَوْلِهِ سَبَدَ رَأْسَهُ وَسَمَدَهُ إذَا حَلَقَهُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "بَكَّةُ هِيَ بَطْنُ مَكَّةَ". وَقِيلَ إنَّ الْبَكَّ الزَّحْمُ, مِنْ قَوْلِك: بَكَّهُ يَبُكُّهُ بَكًّا إذَا زَاحَمَهُ, وَتَبَاكَّ النَّاسُ بِالْمَوْضِعِ إذَا ازْدَحَمُوا; فَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهَا الْبَيْتَ لِازْدِحَامِ النَّاسِ فِيهِ لِلتَّبَرُّكِ بِالصَّلَاةِ, وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِهِ مَا حَوَلَ الْبَيْتِ مِنْ الْمَسْجِدِ لِازْدِحَامِ النَّاسِ فِيهِ لَلطَّوَافِ.

قوله تعالى: {وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} يَعْنِي بَيَانًا وَدَلَالَةً عَلَى اللَّهِ لِمَا أَظْهَرَ فِيهِ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ, وَهُوَ أَمْنُ الْوَحْشِ فِيهِ حَتَّى يَجْتَمِعَ الْكَلْبُ وَالظَّبْيُ فِي الْحَرَمِ, فَلَا الْكَلْبُ يُهَيِّجُ الظَّبْيَ, وَلَا الظَّبْيُ يَتَوَحَّشُ مِنْهُ; وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْتِ هَهُنَا الْبَيْتُ وَمَا حَوْلَهُ مِنْ الْحَرَمِ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي جميع الحرم. وقوله: {مُبَارَكاً} يَعْنِي أَنَّهُ ثَابِتُ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ; لِأَنَّ الْبَرَكَةَ هِيَ ثُبُوتُ الْخَيْرِ وَنُمُوُّهُ وَتَزَيُّدُهُ, وَالْبَرْكُ هُوَ الثُّبُوتُ, يُقَالُ: بَرَكَ بَرْكًا وَبُرُوكًا إذَا ثَبَتَ عَلَى حَالِهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَرْغِيبٌ فِي الْحَجِّ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِمَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ وَالْبَرَكَةِ وَنُمُوِّ الْخَيْرِ وَزِيَادَتِهِ مَعَ اللُّطْفِ فِي الْهِدَايَةِ إلَى التَّوْحِيدِ وَالدِّيَانَةِ.

قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: الْآيَةُ فِي مَقَامِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ قَدَمَيْهِ دَخَلَتَا فِي حَجَرٍ صَلْدٍ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى; لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلَالَةً وَآيَةً عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمِنْ الْآيَاتِ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَمْنِ الْوَحْشِ, وَأُنْسِهِ فِيهِ مَعَ السِّبَاعِ الضَّارِيَةِ الْمُتَعَادِيَةِ, وَأَمْنِ الْخَائِفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فيه {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} وَإِمْحَاقِ الْجِمَارِ عَلَى كَثْرَةِ الرَّامِي مِنْ لَدُنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مَعَ أَنَّ حَصَى الْجِمَارِ إنَّمَا تُنْقَلُ إلَى مَوْضِعِ الرَّمْيِ مِنْ غَيْرِهِ, وَامْتِنَاعِ الطَّيْرِ مِنْ الْعُلُوِّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَطِيرُ حَوْلَهُ لَا فَوْقَهُ, وَاسْتِشْفَاءِ الْمَرِيضِ مِنْهَا بِهِ, وَتَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ لِمَنْ انْتَهَكَ حُرْمَتَهُ, وَقَدْ كَانَتْ الْعَادَةُ بِذَلِكَ جَارِيَةً, وَمِنْ إهْلَاكِ أَصْحَابِ الْفِيلِ لَمَّا قَصَدُوا لَإِخْرَابِهِ بِالطَّيْرِ الْأَبَابِيلِ. فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ آيَاتِ الْحَرَمِ سِوَى مَا لَا نُحْصِيهِ مِنْهَا, وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْتِ هُنَا الْحَرَمُ كُلُّهُ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مَوْجُودَةٌ فِي الْحَرَمِ, وَمَقَامُ إبْرَاهِيمَ لَيْسَ فِي الْبَيْتِ إنَّمَا هُوَ خَارِجَ الْبَيْتِ, وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015