الْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا الْبِشَارَةُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُمْ إلَى الْمُوَافَقَةِ عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ مِنْ صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] فَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ. وَلَوْلَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا ذَلِكَ لَمَا أَعْرَضُوا عِنْدَ الدُّعَاءِ إلَى مَا فِي كُتُبِهِمْ, وَفَرِيقٌ مِنْهُمْ آمَنُوا" وَصَدَّقُوا لِعِلْمِهِمْ بِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَلِمَا عَرَفُوهُ مِنْ التَّوْرَاةِ وَكُتُبِ اللَّهِ مِنْ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِأَنَّهُمْ لَوْلَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا ادَّعَاهُ مِمَّا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ لَمَا أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ بَلْ كَانُوا يُسَارِعُونَ إلَى الْمُوَافَقَةِ عَلَى مَا فِي كُتُبِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنُوا بُطْلَانَ دَعْوَاهُ, فَلَمَّا أَعْرَضُوا, وَلَمْ يُجِيبُوا إلَى مَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ ذَلِكَ. وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَحَدَّى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْعَرَبَ مِنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَأَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ وَعَدَلُوا إلَى الْقِتَالِ وَالْمُحَارَبَةِ, لِعِلْمِهِمْ بِالْعَجْزِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا; وَكَمَا دَعَاهُمْ إلَى الْمُبَاهَلَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَاونساءكم} [آل عمران: 61] إلَى قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ حَضَرُوا وَبَاهَلُوا لَأَضْرَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ الْوَادِيَ نَارًا, وَلَمْ يَرْجِعُوا إلَى أَهْلٍ, وَلَا وَلَدٍ". وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَصِحَّةِ الرِّسَالَةِ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّمَا أَرَادَ بقوله تعالى: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} إلَى الْقُرْآنِ; لِأَنَّ مَا فِيهِ يُوَافِقُ مَا فِي التَّوْرَاةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالشَّرْعِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي قَدْ تَقَدَّمَتْ بِهَا الْبِشَارَةُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَالدُّعَاءُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ: جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نُبُوَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا بَيَّنَّا, وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ دِينَهُ الْإِسْلَامُ, وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ بَعْضَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِنْ حَدٍّ أَوْ غَيْرِهِ, كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى بَعْضِ مَدَارِسِهِمْ, فَسَأَلَهُمْ عَنْ حَدِّ الزَّانِي, فَذَكَرُوا الْجَلْدَ وَالتَّحْمِيمَ وَكَتَمُوا الرَّجْمَ, حَتَّى وَقَّفَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ بِحَضْرَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ مُحْتَمَلَةً لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ قَدْ وَقَعَ إلَى جَمِيعِ ذَلِكَ; وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ دَعَا خَصْمَهُ إلَى الْحُكْمِ لَزِمَتْهُ إجَابَتُهُ; لِأَنَّهُ دَعَاهُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48] .
قَوْله تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} قيل في قوله تعالى: {مَالِكَ الْمُلْكِ} إنَّهُ صِفَةٌ لَا يَسْتَحِقُّهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّهُ مَالِكُ كُلِّ مُلْكٍ, وَقِيلَ مَالِكُ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, وَقِيلَ مَالِكُ الْعِبَادِ وَمَا ملكوا, وقال