قَرَنُوا الْخَبَرَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وُفِّقُوا لِتَرْكِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَهَا وَلِوُجُودِ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَقُولُوا "إنْ شَاءَ اللَّهُ" لَمَا اهْتَدَوْا لَهَا أَبَدًا وَلَدَامَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ، وكذلك قوله: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} فَأَعْلَمَنَا اللَّهُ ذَلِكَ لِنَطْلُبَ نَجَاحَ الْأُمُورِ عِنْدَ الْإِخْبَارِ عَنْهَا فِي الْمُسْتَقْبِلِ بِذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي هُوَ مَشِيئَةُ اللَّهِ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 – 24] فَفِيهِ اسْتِعَانَةٌ بِاَللَّهِ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَيْهِ وَالِاعْتِرَافُ بِقُدْرَتِهِ وَنَفَاذِ مَشِيئَتِهِ وَأَنَّهُ مَالِكُهُ وَالْمُدَبِّرُ لَهُ.

وَالتَّاسِعُ: دَلَالَةُ قَوْلِهِ: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} عَلَى أَنَّ الْمُسْتَهْزِئَ يَسْتَحِقُّ سِمَةَ الْجَهْلِ، لِانْتِفَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَهْل بِنَفْيِهِ الِاسْتِهْزَاءَ عَنْ نَفْسِهِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِأَمْرِ الدِّينِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَعَظَائِمِهَا، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَبْلُغْ مَأْثَمُهُ النِّسْبَةَ إلَى الْجَهْلِ وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ مِسْعَرٍ أَنَّهُ تَقَدَّمَ إلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ الْقَاضِي قَالَ: وَعَلَيَّ جُبَّةُ صُوفٍ وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ كَثِيرَ الْمَزْحِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ: أَصُوفُ نَعْجَةٍ جُبَّتُك أَمْ صُوفُ كَبْشٍ؟ فَقُلْت لَهُ: لَا تَجْهَلْ أَبْقَاكَ اللَّهُ قَالَ: وَأَنَّى وَجَدْت الْمِزَاحَ جَهْلًا؟ فَتَلَوْت عَلَيْهِ: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} قَالَ: فَأَعْرَضِ وَاشْتَغَلَ بِكَلَامٍ آخَرَ.

وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبِّدًا بِقَتْلِ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ الْكُفْرُ، وَإِنَّمَا كَانَ مَأْمُورًا بِالنَّظَرِ بِالْقَوْلِ; لِأَنَّ قَوْلَهُمْ لِنَبِيِّ الله {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} كُفْرٌ وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ لِمُوسَى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ هَذَا لَمْ يُوجِبْ فُرْقَةً بَيْنَ نِسَائِهِمْ وَبَيْنَهُمْ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِفِرَاقِهِنَّ وَلَا تَقْرِيرِ نِكَاحٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ.

وقَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَسَّرَهُ الْعَبْدُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَدَامَ ذَلِكَ مِنْهُ أَنَّ اللَّهَ سَيُظْهِرُهُ، وَهُوَ كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إنَّ عَبْدًا لَوْ أَطَاعَ اللَّهَ مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حِجَابًا لَأَظْهَرَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ وَكَذَلِكَ الْمَعْصِيَةُ". وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: "قُلْ لِبَنِي إسْرَائِيلَ يُخْفُوا لِي أَعْمَالَهُمْ وَعَلَيَّ أَنْ أُظْهِرَهَا".

وقَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} عَامٌّ وَالْمُرَادُ خَاصٌّ; لِأَنَّ كُلَّهُمْ مَا عَلِمُوا بِالْقَاتِلِ بِعَيْنِهِ وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قوله: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} عَامًّا فِي سَائِرِ النَّاسِ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ وَهُوَ عَامٌّ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ سِوَى مَا ذَكَرْنَا حِرْمَانُ مِيرَاثِ الْمَقْتُولِ، رَوَى أَبُو أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015