[التوبة:5] وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، لَكِنَّهُ عَلَى جِهَةِ التَّهَدُّدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} وَقَوْلُهُ {تُبْسَلَ} قَالَ الْفَرَّاءُ: "تُرْتَهَنُ" وَقَالَ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: "تُسْلَمَ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "تُحْبَسَ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "تُفْضَحَ". وَقِيلَ: أَصْلُهُ الِارْتِهَانُ، وَقِيلَ: التَّحْرِيمُ، وَيُقَالُ أَسَدٌ بَاسِلٌ لِأَنَّ فَرِيسَتَهُ مُرْتَهَنَةٌ بِهِ لَا تَفْلِتُ مِنْهُ، وَهَذَا بَسْلٌ عَلَيْك أَيْ حَرَامٌ عَلَيْك لِأَنَّهُ مِمَّا يُرْتَهَنُ بِهِ، وَيُقَالُ: أُعْطِيَ الرَّاقِي بَسْلَتَهُ أَيْ أُجْرَتَهُ لِأَنَّ الْعَمَلَ مُرْتَهَنٌ بِالْأُجْرَةِ، وَالْمُسْتَبْسَلُ الْمُسْتَسْلَمُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَهَنِ بِمَا أَسْلَمَ فِيهِ

قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} قِيلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ حَالٍ نَظَرَهُ وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى مَا سَبَقَ إلَى وَهْمِهِ وَغَلَبَ فِي ظَنِّهِ; لِأَنَّ قَوْمَهُ قَدْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ عَلَى أَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ فَيَقُولُونَ هَذَا صَنَمُ زُحَلَ وَصَنَمُ الشَّمْسِ وَصَنَمُ الْمُشْتَرِي، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ بُلُوغِهِ وَقَبْلَ، إكْمَالِ اللَّهِ تَعَالَى عَقْلُهُ الَّذِي بِهِ يَصِحُّ التَّكْلِيفُ، فَقَالَ ذَلِكَ وَقَدْ خَطَرَتْ بِقَلْبِهِ الْأُمُورُ وَحَرَّكَتْهُ الْخَوَاطِرُ وَالدَّوَاعِي عَلَى الْفِكْرِ فِيمَا شَاهَدَهُ مِنْ الْحَوَادِثِ الدَّالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ وَلَدَتْهُ فِي مَغَارٍ خَوْفًا مِنْ نُمْرُودٍ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ الْأَطْفَالَ الْمَوْلُودِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ الْمَغَارِ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ حِينَ شَاهَدَ الْكَوَاكِبَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ عَلَى قَوْمِهِ، وَحَذَفَ الْأَلِفَ وَأَرَادَ: أَهَذَا رَبِّي قَالَ الشَّاعِرُ:

كَذَبَتْك عَيْنُك أَمْ رَأَيْت بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلَامِ مِنْ الرَّبَابِ خَيَالَا

وَمَعْنَاهُ: أَكْذَبَتْك. وَقَالَ آخَرُ:

رَقَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَا تُرَعْ ... فَقُلْت وَأَنْكَرْتُ الْوُجُوهَ هُمْ هُمْ

مَعْنَاهُ: أَهُمْ هم ومعنى قوله: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} إخْبَارٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَبٍّ وَلَوْ كَانَ رَبًّا لَأَحْبَبْته وَعَظَّمْته تَعْظِيمَ الرَّبِّ وَهَذَا الِاسْتِدْلَال الَّذِي سَلَكَ إبْرَاهِيمُ طَرِيقَهُ مِنْ أَصَحِّ مَا يَكُونُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ وَأَوْضَحِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْكَوْكَبَ فِي عُلُوِّهِ وَضِيَائِهِ قَرَّرَ نَفْسَهُ عَلَى مَا يَنْقَسِمُ إلَيْهِ حُكْمُهُ مِنْ كَوْنِهِ رَبًّا خَالِقًا أَوْ مَخْلُوقًا مَرْبُوبًا، فَلَمَّا رَآهُ طَالِعًا آفِلًا وَمُتَحَرِّكَا زَائِلًا قَضَى بِأَنَّهُ مُحْدَثٌ لِمُقَارَنَتِهِ لِدَلَالَاتِ الْحَدَثِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِرَبٍّ; لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْمُحْدَثَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى إحْدَاثِ الْأَجْسَامِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ فِيهِ كَمَا اسْتَحَالَ ذَلِكَ مِنْهُ إذْ كَانَ مُحْدَثًا، فَحَكَمَ بِمُسَاوَاتِهِ لَهُ فِي جِهَةِ الْحُدُوثِ وَامْتِنَاعِ كَوْنِهِ خَالِقًا رَبًّا ثُمَّ لَمَّا طَلَعَ الْقَمَرُ فَوَجَدَهُ مِنْ الْعِظَمِ وَالْإِشْرَاقِ وَانْبِسَاطِ النُّورِ عَلَى خِلَافِ الْكَوْكَبِ قَرَّرَ أَيْضًا نَفْسَهُ عَلَى حُكْمِهِ فَقَالَ: هَذَا رَبِّي، فَلَمَّا رَاعَاهُ وَتَأَمَّلَ وَجَدَهُ فِي مَعْنَاهُ فِي بَابِ مُقَارَنَتِهِ لِلْحَوَادِثِ مِنْ الطُّلُوعِ وَالْأُفُولِ وَالِانْتِقَالِ وَالزَّوَالِ حَكَمَ لَهُ بِحُكْمِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ وَأَضْوَأَ مِنْهُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مَا شَاهَدَ مِنْ اخْتِلَافِهِمَا مِنْ الْعِظَمِ وَالضِّيَاءِ مِنْ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ بِالْحُدُوثِ لِوُجُودِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015