بِتَحْرِيمِ الْغَنَائِمِ عَلَى أُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَبَقَاءُ هذا الحكم عليهم من شريعة نبينا صلّى اللَّه عليه وآله وسلم فَاسْتَبَاحُوهَا عَلَى ظَنٍّ مِنْهُمْ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ وَلَمْ يكن قد تقدم لهم من النبي صلّى اللَّه عليه وآله وسلم قَوْلٌ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِمْ وَلَا إخْبَارٌ مِنْهُ إيَّاهُمْ بِتَحْرِيمِهَا عَلَى الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فَلَمْ يَكُنْ خَطَؤُهُمْ فِي ذَلِكَ مَعْصِيَةً يُسْتَحَقّ عَلَيْهَا الْعِقَابُ قَوْله تَعَالَى فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا فِيهِ إبَاحَةُ الْغَنَائِمِ وَقَدْ كَانَتْ مَحْظُورَةً قَبْلَ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَا
حَدِيثَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وسلم قَالَ لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّءُوسِ قَبْلَكُمْ
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآله وسلم قَالَ أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَنُصِرْت بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَأُرْسِلْت إلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَبْيَضِ وأعطيت الشفاعة
فأخبر صلّى اللَّه عليه وآله وسلم فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّ الْغَنَائِمَ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهَا قَبْلَهُ وقَوْله تَعَالَى فكلوا مما غنمتم قَدْ اقْتَضَى وُقُوعَ مِلْكِ الْغَنَائِمِ لَهُمْ إذَا أَخَذُوا وَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِي لَفْظِ الْآيَةِ هُوَ الْأَكْلَ وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَكْلَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ مَنَافِعِ الْأَمْلَاكِ إذْ بِهِ قِوَامُ الْأَبْدَانِ وَبَقَاءُ الْحَيَاةِ وَأَرَادَ بِذَلِكَ تَمْلِيكَ سَائِرِ وُجُوهِ مَنَافِعِهَا وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخنزير فحص اللَّحْمَ بِذَلِكَ وَالْمُرَادُ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ لِأَنَّهُ مُبْتَغَى مَنَافِعِهِ وَمُعْظَمُهَا فِي لُحُومِهِ وَكَمَا قَالَ تَعَالَى إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذكر الله وذروا البيع فحص الْبَيْعَ بِالْحَظْرِ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَالْمُرَادُ سَائِرُ مَا يَشْغَلُ عَنْ الصَّلَاةِ وَكَانَ وَجْهُ تَخْصِيصِهِ أَنَّهُ مُعْظَمُ مَنَافِعِ التَّصَرُّفِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِذَا كَانَ مُعْظَمُهُ مَحْظُورًا فَمَا دُونَهُ أَوْلَى بِذَلِكَ وَذَلِكَ فِي مَفْهُومِ اللَّفْظِ وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا فحص الْأَكْلَ بِالذِّكْرِ وَدَلَّ بِهِ عَلَى حَظْرِ الْأَخْذِ وَالْإِتْلَافِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْأَكْلِ فَهَذَا حُكْمُ اللفظ إذا ورد في مثله ولولا الْأَكْلِ مُوجِبَةً لِلتَّمْلِيكِ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَبَاحَ لِرَجُلٍ أَكْلَ طَعَامِهِ إنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ وَلَا يَأْخُذَهُ وَإِنَّمَا لَهُ الْأَكْلُ فَحَسْبُ وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي مَفْهُومِ خِطَابِ الْآيَةِ التَّمْلِيكُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَوْجَبَ التَّمْلِيكَ وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خمسه فَجَعَلَ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ غَنِيمَةً لَهُمْ وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ وَكَذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى فَكُلُوا مِمَّا غنمتم لما أضاف الغنيمة إليهم فقد أفاد تملكها إياهم