ثُمَّ يَدْخُلُ اللَّيْلُ فَتَكُونُ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، وَكَانَ مَا بَعْدَهَا وَقْتًا لِلتَّطَوُّعِ، يُقَالُ إنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] وَإِنَّهُ الْمُرَادُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: 6]
ثُمَّ يَغِيبُ الشَّفَقُ فَتَدْخُلُ الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ، وَيَمْتَدُّ وَقْتُهَا إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثِهِ، وَهُوَ مَحَلُّ النَّوْمِ إذَا صَلَّى الْعِشَاءَ [الْآخِرَةَ] إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ فَإِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ فَهُوَ وَقْتٌ لِقِيَامِ اللَّيْلِ.
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا جَلَّ وَعَلَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا إذَا ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ. فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ، حَتَّى إذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ فَهُوَ أَيْضًا وَقْتٌ لِلْقِيَامِ»، لِقَوْلِهِ: «إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا» الْحَدِيثَ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ «إذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ»؟ وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ جَاءَ قَوْله تَعَالَى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا} [المزمل: 3] هُوَ إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 4]: هُوَ إذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ، وَبِهَذَا التَّرْتِيبِ انْتَظَمَ الْحَدِيثُ وَالْقُرْآنُ فَإِنَّهُمَا يَنْظُرَانِ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى إذَا بَقِيَ سُدُسُ اللَّيْلِ كَانَ مَحَلًّا لِلنَّوْمِ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَثَّ عَلَى سُنَنِ دَاوُد فِي صَوْمِهِ وَقِيَامِهِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إنَّ دَاوُد كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، ثُمَّ يَطْلُعُ الْفَجْرُ فَتَعُودُ الْحَالَةُ الْأُولَى هَكَذَا أَبَدًا، ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَتَدْبِيرُ الْعَلِيِّ الْحَكِيمِ.»
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ: {إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2]: اسْتَثْنَى مِنْ اللَّيْلِ كُلِّهِ " قَلِيلًا " وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ عَلَى وَجْهِ كَلَامِهِ فِيهِ، وَهُوَ إحَالَةُ التَّكْلِيفِ عَلَى مَجْهُولٍ يُدْرَكُ عِلْمُهُ بِالِاجْتِهَادِ؛ إذْ لَوْ قَالَ: إلَّا ثُلُثَهُ، أَوْ رُبْعَهُ، أَوْ سُدُسَهُ، لَكَانَ بَيَانًا نَصًّا، فَلَمَّا قَالَ: {إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] وَكَانَ مُجْمَلًا لَا يُدْرَكُ إلَّا بِالِاجْتِهَادِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ أَدِلَّةِ التَّكْلِيفِ.