الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3]: وَهُوَ حَرْفٌ مُشْكِلٌ؛ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ.
وَمَحْصُولُ الْأَقْوَالِ سَبْعَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ؛ وَهُوَ مَشْهُورُ قَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ.
الثَّالِثُ: الْعَزْمُ عَلَيْهِمَا؛ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي مُوَطَّئِهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْوَطْءُ نَفْسُهُ.
الْخَامِسُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ أَنْ يُمْسِكَهَا زَوْجَةً بَعْدَ الظِّهَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّلَاقِ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ وَطْأَهَا إلَّا بِكَفَّارَةٍ.
السَّابِعُ: هُوَ تَكْرِيرُ الظِّهَارِ بِلَفْظِهِ، وَيُسْنَدُ إلَى بُكَيْر بْنِ الْأَشَجِّ.
فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْعَوْدُ إلَى لَفْظِ الظِّهَارِ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَلَا يَصِحُّ عَنْ بُكَيْر، وَإِنَّمَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَهَالَةِ دَاوُد وَأَشْيَاعِهِ. وَقَدْ رَوَيْت قِصَصَ الْمُتَظَاهِرِينَ، وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمْ ذِكْرٌ لِعَوْدِ الْقَوْلِ مِنْهُمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَعْنَى يَنْقُضُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ، فَكَيْفَ يُقَالُ لَهُ إذَا أَعَدْت الْقَوْلَ الْمُحَرَّمَ وَالسَّبَبَ الْمَحْظُورَ وَجَبَتْ عَلَيْك الْكَفَّارَةُ، وَهَذَا لَا يُعْقَلُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ سَبَبٍ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِعَادَةُ مِنْ قَتْلٍ وَوَطْءٍ فِي صَوْمٍ وَنَحْوِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّهُ تَرْكُ الطَّلَاقِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَيَنْقُضُهُ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ أُمَّهَاتٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ {ثُمَّ} [المجادلة: 3] وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي التَّرَاخِيَ.
الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ {ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3] يَقْتَضِي وُجُودَ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَمُرُورُ الزَّمَانِ لَيْسَ بِفِعْلٍ مِنْهُ.