فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُؤْمَرُ إبْرَاهِيمُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ وَهِيَ مَعْصِيَةٌ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْصِيَةِ لَا يَجُوزُ؟ قُلْنَا: هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ، فَكَيْفَ مِمَّنْ يُفْتِي فِي الْحَلَالِ مِنْهُ وَالْحَرَامِ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102].

وَاَلَّذِي يَجْلُو الِالْتِبَاسَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ وَالطَّاعَاتِ لَيْسَتْ بِأَوْصَافٍ ذَاتِيَّةٍ لِلْأَعْيَانِ؛ وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ مِنْ الْأَفْعَالِ، وَالْمَعْصِيَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ النَّهْيُ مِنْ الْأَفْعَالِ، فَلَمَّا تَعَلَّقَ الْأَمْرُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ إسْمَاعِيلَ مِنْ إبْرَاهِيمَ صَارَ طَاعَةً وَابْتِلَاءً، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106]؛ أَيْ الصَّبْرُ عَلَى ذَبْحِ الْوَلَدِ وَالنَّفْسِ.

وَلَمَّا تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِنَا فِي ذَبْحِ أَبْنَائِنَا صَارَ مَعْصِيَةً.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِيرُ نَذْرًا وَهُوَ مَعْصِيَةٌ؟ قُلْنَا: إنَّمَا يَصِيرُ مَعْصِيَةً لَوْ كَانَ هُوَ يَقْصِدُ ذَبْحَ وَلَدِهِ بِنَذْرِهِ وَلَا يَنْوِي الْفِدَاءَ.

فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ وَقَصَدَ الْمَعْصِيَةَ وَلَمْ يَنْوِ الْفِدَاءَ؟ قُلْنَا: لَوْ قَصَدَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ فِي قَصْدِهِ، وَلَا أَثَرَ فِي نَذْرِهِ، لِأَنَّ ذَبْحَ الْوَلَدِ صَارَ عِبَارَةً عَنْ ذَبْحِ الشَّاةِ شَرْعًا.

فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْهُ وَكِنَايَةً فِيهِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ كِنَايَةً عَنْ الشَّيْءِ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ؛ إمَّا بِاشْتِبَاهِهِمَا فِي الْمَعْنَى الْخَاصِّ، وَإِمَّا بِنِسْبَةٍ تَكُونُ بَيْنَهُمَا، وَهَا هُنَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَهُوَ النَّذْرُ، وَلَا بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ وَهِيَ ذَبْحُ الْوَلَدِ، وَلَا تَشَابُهَ أَيْضًا بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ ذَبْحَ الْوَلَدِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِذَبْحِ الشَّاةِ.

قُلْنَا: هُوَ سَبَبٌ لَهُ شَرْعًا لِأَنَّهُ جُعِلَ كِنَايَةً عَنْهُ فِي الشَّرْعِ. وَالْأَسْبَابُ إنَّمَا تُعْرَفُ عَادَةً أَوْ شَرْعًا، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا بَاقِيَ الْكَلَامِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015