وَاَلَّذِي عِنْدِي الْآنَ فِيهَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افْتَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً، لَكِنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَسُمُّوا الطُّلَقَاءَ، وَمَنَّ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى: مَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَتَرَكَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ عَلَى أَحْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ عَلَيْهِمْ»، وَلَكِنَّ النَّاسَ إذَا كَثُرُوا وَارِدِينَ عَلَيْهِمْ شَارَكُوهُمْ بِحُكْمِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ نَهَى أَنْ تُغْلَقَ مَكَّةُ زَمَنَ الْحَاجِّ، وَأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَنْزِلُونَ مِنْهَا حَيْثُ وَجَدُوا فَارِغًا، حَتَّى كَانُوا يَضْرِبُونَ الْفَسَاطِيطَ فِي جَوْفِ الدُّورِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج: 25]
تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي دُخُولِ الْبَاءِ هَاهُنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا زَائِدَةٌ، كَزِيَادَتِهَا فِي قَوْلِهِ: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20]، وَعَلَيْهِ حَمَلُوا قَوْلَ الشَّاعِرِ:
نَحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أَصْحَابُ الْفَلَجْ ... نَضْرِبُ بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو بِالْفَرَجْ
أَرَادَ وَنَرْجُو الْفَرَجَ. وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي سَبِيلِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ حَمْلَ الْمَعْنَى عَلَى الْفِعْلِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْحَرْفِ.
فَيُقَالُ الْمَعْنَى: وَمَنْ يُهِمُّ فِيهِ بِمِيلٍ يَكُونُ ذَلِكَ الْمَيْلُ ظُلْمًا؛ لِأَنَّ الْإِلْحَادَ هُوَ الْمَيْلُ فِي اللُّغَةِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي عُرْفِ الشَّرِيعَةِ مَيْلًا مَذْمُومًا، فَرَفَعَ اللَّهُ الْإِشْكَالَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْمَيْلَ بِالظُّلْمِ هُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا، وَالظُّلْمُ فِي الْحَقِيقَةِ لُغَةً وَشَرْعًا وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالذُّنُوبِ الْمُطْلَقَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَنَفْسِهِ، وَبِالذُّنُوبِ الْمُتَعَدِّيَةِ إلَى الْخَلْقِ، وَهُوَ أَعْظَمُ. وَلِذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَهُ فُسْطَاطَانِ: أَحَدُهُمَا فِي الْحِلِّ، وَالْآخَرُ فِي الْحَرَمِ؛ فَكَانَ إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ دَخَلَ فُسْطَاطَ الْحَرَمِ، وَإِذَا أَرَادَ الْأَمْرَ لِبَعْضِ شَأْنِهِ دَخَلَ فُسْطَاطَ الْحِلِّ، صِيَانَةً لِلْحَرَمِ عَنْ قَوْلِهِمْ: كَلًّا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ، حِينَ عَظَّمَ اللَّهُ الذَّنْبَ فِيهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَاتِ تُعَظَّمُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الزَّمَانِ، كَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَعَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْمَكَانِ، كَالْبَلَدِ الْحَرَامِ، فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ مَعْصِيَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا بِنَفْسِ الْمُخَالَفَةِ، وَالثَّانِيَةُ بِإِسْقَاطِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، أَوْ الْبَلَدِ الْحَرَامِ
فَإِنْ أَشْرَكَ فِيهِ أَحَدٌ فَقَدْ أَعْظَمَ الذَّنْبَ، وَمَنْ اسْتَحَلَّهُ مُتَعَمِّدًا