«إنَّمَا اُتُّخِذْت خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ» يَعْنِي بِشَرْطِ أَنْ تُتَّبَعَ عَثَرَاتِي، وَتُخْتَبَرَ أَحْوَالِي، وَالْخِلَّةُ الْمُطْلَقَةُ لِمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، وَلِذَلِكَ تَقُولُ الْعَرَبُ فِي أَمْثَالِهَا: ابْغِنِي مِنْ وَرَائِي، أَيْ اخْتَبِرْ حَالِي.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ نُكْتَةٌ عُظْمَى تَقْصِمُ الظَّهْرَ، وَهِيَ أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ مِنْهَا مَاحَلَ بِهِمَا عَنْ دِينِ اللَّهِ» وَهِيَ قَوْلُهُ: إنِّي سَقِيمٌ، وَبَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، وَلَمْ يَعُدَّ قَوْلَهُ: هَذِهِ أُخْتِي فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَ بِهَا مَكْرُوهًا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ فِيهَا حَظٌّ مِنْ صِيَانَةِ فِرَاشِهِ، وَحِمَايَةِ أَهْلِهِ، لَمْ يَجْعَلْ فِي جَنْبِ اللَّهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ فِي ذَاتِ اللَّهِ إلَّا الْعَمَلَ الْخَالِصَ مِنْ شَوَائِبِ الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوْ الْمَعَانِي الَّتِي تَرْجِعُ إلَى النَّفْسِ، حَتَّى إذَا خَلَصَتْ لِلدِّينِ كَانَتْ لِلَّهِ، كَمَا قَالَ: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] وَهَذَا لَوْ صَدَرَ مِنَّا لَكَانَ لِلَّهِ، وَلَكِنَّ مَنْزِلَةَ إبْرَاهِيمَ اقْتَضَتْ هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ - فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 78 - 79]. فِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] لَمْ يُرِدْ إذْ جَمَعَهُمَا فِي الْقَوْلِ اجْتِمَاعَهُمَا فِي الْحُكْمِ، فَإِنَّ حَاكِمَيْنِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنَّمَا حَكَمَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادٍ بِحُكْمٍ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ هُوَ الْفَاهِمُ لَهَا.