وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْوَظَائِفِ فَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ ثَبَتَ وُجُوبُ الْعِلْمِ بِهِ لِاسْتِحَالَةِ أَدَائِهَا إلَّا بِعِلْمٍ، ثُمَّ يَنْشَأُ عَلَى هَذَا أَنَّ الْمَزِيدَ عَلَى الْوَظَائِفِ مِمَّا فِيهِ الْقِيَامُ بِوَظَائِفِ الشَّرِيعَةِ كَتَحْصِينِ الْحُقُوقِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْخُصُومِ وَنَحْوِهِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ؛ إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَهُ جَمِيعُ النَّاسِ، فَتَضِيعَ أَحْوَالُهُمْ وَأَحْوَالُ سِوَاهُمْ، وَيَنْقُصَ أَوْ يَبْطُلَ مَعَاشُهُمْ، فَتَعَيَّنَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْبَعْضُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يُيَسِّرُ اللَّهُ الْعِبَادَ لَهُ، وَيُقَسِّمُهُ بَيْنَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ بِسَابِقِ قُدْرَتِهِ وَكَلِمَتِهِ، وَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الطَّائِفَةُ: فِي اللُّغَةِ: الْجَمَاعَةُ.
قِيلَ: وَيَنْطَلِقُ عَلَى الْوَاحِدِ عَلَى مَعْنَى نَفْسِ طَائِفَةٍ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ، فَإِنَّ الْهَاءَ فِي مِثْلِ هَذَا إنَّمَا هِيَ لِلْكَثْرَةِ، كَمَا يُقَالُ رَاوِيَةٌ، وَإِنْ كَانَ يَأْتِي بِغَيْرِهِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا جَمَاعَةٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَقْلًا وَالْآخَرُ لُغَةً: أَمَّا الْعَقْلُ: فَلِأَنَّ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ لَا يَتَحَصَّلُ بِوَاحِدٍ فِي الْغَالِبِ.
وَأَمَّا اللُّغَةُ: فَلِقَوْلِهِ: {لِيَتَفَقَّهُوا} [التوبة: 122] {وَلِيُنْذِرُوا} [التوبة: 122]؛ فَجَاءَ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ.
وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ قَبْلَهُ، يَرَوْنَ أَنَّ الطَّائِفَةَ هَاهُنَا وَاحِدٌ.
وَيَعْتَضِدُونَ فِيهِ بِالدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَهُوَ صَحِيحٌ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الطَّائِفَةَ تَنْطَلِقُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ خَبَرَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ أَوْ الْأَشْخَاصِ خَبَرٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّ مُقَابِلَهُ وَهُوَ التَّوَاتُرُ لَا يَنْحَصِرُ بِعَدَدٍ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَهَذِهِ إشَارَتُهُ.
ِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 123].