الأصلُ في هذه الحالة الحكمَ بالسماع، وعدمَ النظر إلى القرائن. لكن إن لم يوجد نصٌّ دالٌّ على السماع، فإن إفادة القرائن غلبةَ الظن بعدم وقوع السماع تبقى هي المعمولُ بإفادتها المحكومُ بما تُرجّحُهُ. وهنا يظهر أن الوقوفَ على نصٍّ دالٍّ على السماع أو عدم الوقوف عليه هو القاعدة التي ننطلق منها في إعمال دلالة القرائن أو عدم إعمالها، ولذلك كان التنصيص على عدم وجود لفظٍ دالٍّ على السماع عند وجود تلك القرائن أمرًا محتَّمًا، لاستكمال المقدِّمات التي ستُوصِلنا إلى النتيجة. وهذا وَجْهٌ أوّلٌ لسبب الإعلال بعدم العلم بالسماع، وهو أنه إعلامٌ بأن الراوي لم يذكر نصًّا دالاًّ على السماع، وغالبًا لا يكون لهذا الإعلام أيّ فائدة إلا إن كانت هناك قرائن تشهد لعدم السماع.
والوجه الثاني: أننا بيّنّا آنفًا أن الحكم بعدم السماع الذي يرد كثيرًا في أحكام الأئمة مبنيٌّ (في الغالب) على مُلاحَظَةِ القرائن، وليس مبنيًّا على خبرٍ يقيني ونصٍّ من الراوي نفسه (مثلاً) بأنه لم يسمع من فلان.. إلا نادرًا.
وما دام الأمر كذلك، فإن القرائن وحدها قد لا تصل إلى حدّ إفادة القطع بعدم اللقاء، وقد تقترب من إفادة القطع، وقد تفيده. لكن يبقى أن الطريق إلى ذلك كله (وهو القرائن) طريقٌ وعر، والحكم الصادر من خلاله حكمٌ على مُغَيَّبٍ مجهول، لذلك كان من تمام الورع ومن الدقَّة في التعبير أن يستخدم الأئمة عباراتٍ تتضمن التشكيكَ في السماع وترجيحَ عدمِ وقوعه، دون تَجَاوُزِ ذلك إلى عباراتِ الجزم والقطع. فكانت عبارة نفي العلم بالسماع إحدى هذه العبارات، التي إنما قُصِد بها إعلانُ الشكِّ في السماع وترجيح عدمه.