الفصل الأول
المُعَرَّب
اللغات تؤثر وتتأثر بغيرها، هذه حقيقة لا جدال فيها، ولكن تتعدد صور التأثير والتأثر حسب طبيعة اللغة. واللغة العربية واحدة من هذه اللغات أثرت وتأثرت، وكان من صور تأثرها بغيرها من اللغات أن اقترضت ألفاظا كثيرة على مدار رحلتها مع الزمن قبل نزول القرآن الكريم، وقد استعملها العرب وجعلوها موافقة في بنيتها لكلام العرب، وجاء القرآن الكريم فاستعمل هذه الألفاظ التي صارت بالاستعمال عربية. وحتى لا يختلط اللفظ الفصيح بالأجنبي وُجِدَ أن اللغة العربية تسم هذه الألفاظ بما يميزها، كأن تمنعه من الصرف، أو يظل على بناء ليس من أبنيتها، أو تتصرف فيه بما لا تتصرف في غيره من فصيحها فتحذف أو تزيد في بنائه، أو تتعدد لغاتهم فيه. وتعدد اللغات فيما عربته العرب هي السمة التي أكدتها القراءات القرآنية، وهذا ما سوف يوضحه الدارس في هذا الفصل من خلال الشواهد الآتية:
• (فَصِرْهُنَّ): كلمة سريانية دخلت العربية، ومعناها: قطعهن أو شققهن أو أَمِلْهُنَّ، وردت في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (?).
وقد تعددت فيها القراءات، حيث قرئت: فَصِرْهُنَّ، فَصُرَّهُنَّ، فَصِرَّهُنَّ (?).
والذي دعا إلى تعدد اللغات فيها أنها لفظة معربة عن السريانية أو النبطية، وقد اشتهر ذلك في كتب التفسير والغريب، حيث نص على ذلك الطبري (?)،