فالقراءات إذن علم يبحث في كيفية أداء كلمات القرآن والنطق بها كما أنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع معرفة مختلفها إعرابا وبناء، تذكيرا وتأنيثا، تخفيفا وتشديدا، مدا وقصرا ... عن طريق التلقي والمشافهة من المشايخ المجودين؛ لأن هناك أمورا في القراءة لم يدركها خط المصحف المكتوب، ولا تعرف إلا عن طريق المشافهة والسماع كالإمالة، والتفخيم، والترقيق، والقلقلة، ونطق الهمزة بين بين ونحو ذلك (?).
وهذه القراءات لم يكن مصدرها اجتهادا من العلماء، ولا طبيعة الخط العربي، ولا رسم مصحف سيدنا عثمان، وإنما كان مصدرها النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فهي أقدم وجودا من كتابة المصحف، وقد أقرأ النبي الصحابة بهذه الكيفيات، وليس أدل على ذلك من حديث يرويه البخاري بسنده عن سيدنا عمر بن الخطاب يقول فيه: "سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ قَالَ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرْسِلْهُ اقْرَأْ يَا هِشَامُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ يَا عُمَرُ فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ" (?).
وعلى الرغم من تواتر هذا الحديث فإنه" من المشكل الذي لا يُدْرَى ما معناه؛ لأن الحرف يَصْدُقُ لغةً على حرف الهجاء، وعلى الكلمة، وعلى المعنى، وعلى الجهة " وهذا الإشكال أدى إلى اختلاف آراء العلماء في فهم معناه، حتى إن السيوطي في " الإتقان " يروي في معناه أربعين وجها (?).