البعثة لم يعملوا كذلك قبلها ولا بعدها, ولو أنهم [س 129/ ب] خضعوا للحقِّ إلى هذا القَدْر لما تردَّدوا في تصديق النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وقبول الإِسلام, لأنَّ الإِسلامَ جارٍ على ذلك الأصل؛ إلا أنه فصَّل الطاعات بحججٍ بيِّنات قام البرهان أنها من عند الله عزَّ وجلَّ.
فعلى كلِّ حالٍ قد ثبت أنَّ ما كان عليه المشركون يوجب غضبَ الله عزَّ وجلَّ حتى مع صرف النظر عن نبوَّة محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وقد تقدَّم إثباتُ أنَّ الملائكة لا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى، وهو لا يرتضي الشفاعة لمن أشرك به، فالملائكة لا يشفعون للمشركين.
وأغلب آيات الشفاعة - وعليها مدار محاجَّته تعالى للمشركين - تدور على هذا الأمر، وهو أنهم لا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى، حتى إنَّ أعظم آية في القرآن وهي آية الكرسي مبنيَّة عليه، [س 130/ أ] فإنَّ قبلها قولَه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، أجمل في هذه الآية نَفْيَ الشفاعة وأراد بها - والله أعلم - الشفاعة المتعارَفَةَ بين الناس مِنْ أنَّ الشافع يُقْدِمُ على الشفاعة مِنْ دون إذنٍ من المشفوع إليه، وهذا تحذير للمؤمنين من الاتِّكال على الشفاعة إلى حدًّ يتهاونون فيها بطاعة الله، ولم يقل هنا: "ولا شفاعة إلا بإذنه" أو نحو ذلك مبالغة في التحذير من الاتَّكال، ولكن نبَّه على المراد بالآية الثانية آية الكرسي، والخطاب وإن كان للمؤمنين فإنَّ فيه تعريضًا بالمشركين في اتَّكالهم على شفاعة الملائكة، ولذلك قال: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، ثم قال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وهذا رد على المشركين