[س 128/ أ] الدرجة الثانية: أن الله عزَّ وجلَّ إنما منح البشر قدرة محدودة يتصرَّفون فيها باختيارهم ظاهرًا ابتلاء لهم واختبارًا ليتبيَّن المطيع من العاصي، فأما الملائكة فلا حاجة لهم للابتلاء فهم مطهَّرون معصومون، وهذا يفيد أنَّ القدرة الممنوحة لهم إنما يتصرَّفون بها إذا أمرهم الله تبارك وتعالب، وقد بيَّن سبحانه وتعالى ذلك بقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 26 - 28]، {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} , معناه: لا يعملون إلا بأمره؛ لأنَّ تقديم الجارِّ والمجرور يفيد الحصر. فتفيد هذه الآية أنهم لا يعملون إلاَّ إذا أمرهم ولا يفعلون إلاَّ ما أمرهم.
وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 49 - 50].
أقول: فإذا كان الملائكة لا يقولون إلاَّ ما أمرهم الله ولا يفعلون إلا ما أمرهم، فما معنى الخضوع لهم وطلب الشفاعة منهم؟ لا أرى في ذلك إلا محاربةً الله عزَّ وجلَّ، ومطاوعةً الشيطان.
[س 128/ ب] الدرجة الثالثة: لنصرف النظر عن هذا، فقد قامت الحجة أن الملائكة ليسوا إلاَّ عبادًا مخلصين، والعبد المخلص لا يفعل إلاَّ ما يرضَى ربُّه، فكيف إذا كان الربُّ هو الله عزَّ وجلَّ الذي يعترفون بعظمته وغناه عما سواه، والعبيد هم الملائكة المطَهَّرون المنزَّهون عن حظوظ النفس المستغرقون في محبة ربهم عزَّ وجلَّ.