وأصحابُ أصحابهم، ثم أخذت الهممُ تضعف والعلماء يقلُّون وأسباب الهوى تشرى، فنشأ التقيُّد بالمذاهب، ثم استحكم وصار المتفقِّهة يتنافسون؛ كلٌّ يحاول الزيادة في أتباع مذهبه, وأوقع ذلك في إحَن ومِحَن وفتن معروفة.
وأخذ متفقّهة كل مذهب يحاولون أن يجعلوه كافيًا بأن يُوجدوا فيه أحكامًا للفروع الكثيرة التي لم يذكرها الإِمام، فأخذوا في الاجتهاد جاعلين أقوال الإِمام أصولاً يُلحقون بها ما لم يذكره بالمقايسة والتشبيه والرأي المحض مع التفنُّن في فَرْض صور نادرة بل مستحيلةٍ. ثم تتَّخذ الطبقة الثانية أقوال مَن قبلها أصولاً يُلحقون بها ما لم يُذكر من الفروع، وهلمَّ جرًّا.
حتى في عصرنا هذا - رغمًا عن تضخُّم المذهب - فما أكثر الوقائع التي تقع فلا يجدها المتفقِّه في كتب مذهبه، فيشمِّر للاجتهاد متَّخذًا أقوال من قبله - ولو عن قربٍ - أصولاً [ص 3] يستنبط منها ويقيس ويشبِّه ويتكلَّف. ومن شأن تلك الاجتهادات أن تؤدِّي كثيرًا إلى ما يخالف نصوص الشرع ومقاصده، وإلى ما يخالف كلام الأئمة وقدماء أصحابهم، وهذا هو الواقع.
فأما كثرة الاختلاف في كل مذهب وتعارض التصحيح والترجيح فحدِّثْ عنه ولا حرج، وإن حاول المتأخرون التخفيف من ذلك! ومع هذا كله، فلم تُطبِق الأمة على هجر الكتاب والسنة، بل بقي النظر في التفسير وجمع السنة وترتيبها والكلام في الروايات وجمع الأدلة واستنباطها من الكتاب والسنة مستمرًّا وإن تفاوتت المقاصد؛ فمِنْ عالم مستقلٍّ وإن انتسب إلى مذهب فنسبة اسمية فقط، وثانٍ منتسب ملتزم، غير أنه إذا بان له في مسألة رجحانُ خلاف مذهبه دليلاً أخذ بالدليل، وثالث متقيد بمذهب لا يستطيع التخلُّص من شيء منه. والملتزمون كثيرون, ولا يكاد يخلو واحد منهم عن الرغبة في الانتصار