فليعلم أبو ريَّة أن مِن شيوخ الحشويَّة - كما يسمّيهم - مَن إن ثَقُل عليهم كتابه هذا لحُبهم للإسلام، فإنهم لا يرونه أكثر من دعوة يدعوهم الله عزَّ وجلَّ [ص 10] بها إلى الجهاد في سبيل إعلاء كلمته، ويعلمون أنهم إن شمَّروا عن سواعد الجدّ وبذلوا ما يسعهم مِن الجهد، فقد فازوا في هذا الابتلاء برضوان الله تبارك وتعالى، سواءٌ أحصل ما يرغبون فيه من استجابة كثير من الناس للحقّ أم لم يحصل.

إن المعلوم بالتجربة أن العارف باللغة إذا سمع وفَهِم المعنى وضبط، ثم روى بالمعنى لا يخطئ إلا نادرًا، بحيث إذا لم يتبيَّن في شيءٍ أنه أخطأ فيه = يحصل الوثوق بخبره. وهذا الوثوق هو مدار التكليف، كما أنه مدار أعمال العقلاء، ألا ترى ركوب السيارة والباخرة والطائرة موثوق بالسلامة فيه الثقة التي يطمئنّ إليها العقلاء ويعملون بها، وإن كان قد يتفق الاصطدام والغرق والسقوط، على أن الاصطدام والغرق والسقوط مُهلك ولا بُدّ، فأما الغلط في الرواية فلا بدّ أن يُهيّئ الله تعالى ما يبيّنه فلا يستمر ضرره، ومَن كان له معرفة راسخة بالحديث يعرف هذا ويتحققه.

وأئمة الحديث لا يوثّقون الراوي حتى يعتبروا رواياته بروايات الثقات المعروفين، فإذا وجدوه يُغيِّر المعنى جرحوه، وإن وجدوه قد يقع له التغيير ولا يَكثُر غمزوه وقالوا: لا يُحتج به، يعنون: أن حديثه يحتاج إلى متابعات وشواهد، وهكذا.

وقد حكى أبو ريَّة أن البخاريَّ يروي بالمعنى، وهذا صحيحه موجود، وقلَّ حديث فيه إلا وهو يوجد من رواية غيره عن شيخه أو شيخ شيخه، فهل وجد أهلُ العلم تفاوتًا مُخلًّا بالمعنى يؤدي إلى فساده؟ كلَّا ولله الحمد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015