ومع هذا فالذي أعتقده ما دلَّ عليه قولُه تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 130 - 131]. والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وها هنا بحثٌ في حال الناس قبل بعثة محمد صلَّى الله عليه وآله وسلم، هل تقوم ببعثة كلِّ رسولٍ الحجةُ على كل مَن بلغتْه دعوتُه ولو لم يكن مِن قومه الذين أُرسِل إليهم، أو لا تقوم الحجةُ إلّا على قومِه خاصةً؟ ولهذا البحث موضعٌ غير هذا. ومما يتعلق به قوله تعالى في سورة الأنعام: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)}، وقوله في المائدة: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا ...} الآية [19].
وعلى كل حالٍ فإن الله جلَّ ذِكرُه لم يكتفِ في إقامة الحجة وبيان التكاليف بمجرد الفطرة والعقل، أما فيما لا سبيلَ لهما إلى إدراكه كالصلاة والصيام فظاهر، وأما غيره فلكثرة العوارض والشواغل التي تُغيِّر الفطرة وتَشْغَل العقلَ، فاقتضت الإرادة الربانية الهداية والبيان، فاصطفى سبحانه وتعالى مِن خلقه رُسُلًا يُنزل إليهم وحيَه، ويؤيِّدهم بآياته، ليذكِّروا الناسَ بآيات ربهم، [ويَلفِتوا أنظارهم إلى براهين توحيده]، ويدعوهم إليه،