بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه.
كان العرب قبل الإِسلام أمة أمية كتابهم الطبيعة، مدرستهم الحياة، أقلامهم ألسنتهم، ودفاترهم قلوبهم، وكان كل من أراد منهم تقييد فكرة، أو تخليد حكمة، أو تثبيت مأثرة، أو إظهار عبقرية في دقة الإحساس ولطف التصوّر وإتقان التصوير، أنشأ في ذلك أبياتا أو قصيدة، فلا تكاد تجاوز شفتيه حتى يتلقفها الرواة فيطيروا بها كلَّ مَطار، فكان الشعر وحده هو مؤلفاتهم وهو تاريخهم وهو مظهر نبوغ مفكريهم.
ثم جاء الإِسلام فنقلهم من الأمية إلى العلم والحضارة، ومن العزلة عن الأمم إلى مخالطتها، فكان من جراء تلك المخالطة مع ما أفادوا بها من المصالح أن أخذت السليقةُ تضْعُف، وأخذ اللحن والخطأ يتسرّب إلى ألسنتهم، وأخذ الخطر يهدد اللغة وآثار السلف ويتطاول إلى الدين نفسه، فإن مداره على الكتاب والسنة وهما باللسان العربي الفصيح، فنهض العلماء لمقاومة ذاك الخطر؛ فدوّنوا اللغة وأسسوا قواعدها وقيدوا شواردها، وكان من أهمّ ما اعتنوا بحفظه أشعارُ القُدماء لعلمهم أنها تراثهم وتاريخهم، وأنها المنبع المعين لمعرفة اللغة وقواعدها، وأنها هي المحكّ الذي يتيسر به نقد الحكايات والقصص عن أحوال الجاهلية، فكان العلماء لا يكادون يصغون