وتتجلى شخصية الإبراهيمي كذلك في ثقافته، إذ لم يكن عالما بالمعنى المعروف عن معظم علماء الدين التقليديين، بل كان عالما شاملا تعمق في كثير من فنون العلم والمعرفة، بالإضافة إلى علوم الدين، توّج ذلك كله ذكاؤه وموهبته الخارقة في سرعة الاستيعاب والاستنباط والاجتهاد، وتوظيف ذلك كله لخدمة الإسلام والوطن والأمة، مما أهّله لتَبَوُّإِ سدة الريادة والقيادة، وقد تحدث أحد تلامذته، الأستاذ عبد المجيد مزيان عن ثقافته فقال:
"ونشهد كما عرفناه، نحن تلامذته- أنه كان من أعلم أهل عصره بالعلوم الإسلامية والعربية، كان إمامًا لا نظير له في علوم الحديث، وكانت نيته أن ينشئ مدرسة مغربية للحديث، لو ترك له النضال الفاتك بوقته قليلا من الوقت، وقد أنشأ مدرسة «دار الحديث» لهذا الغرض البعيد الأهداف …
… وكان مفسّرًا للقرآن في دروس عمومية ودروس للطلبة الخواص، أتى فيها بإبداعات سجلتها عنه ذاكرة الرجال، ولو لم تجمعها المكتوبات، وكان معلما للتاريخ الإسلامي ببراعة تحليل وسعة نظر، يتطرق إلى فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع والأخلاق لينير التاريخ بمنظار الفكر الإسلامي والالتزام الأخلاقي الذي تدعو إليه النهضة الثقافية والإصلاح، وكان أستاذًا في اللغة والآداب العربية، يجمع بين الأصيل والجديد، وإن كان في أسلوبه الخطابي معجبًا بروائع البلاغة العربية، متعشقًا لآثار الفطاحل المبدعين في العصور النيّرة من الجاحظ إلى ابن خلدون.
وكان مع هذا كله قدوة في سهولة المعاملة والاتصال، بشوشًا مَرِحًا في مجالسه، واسع الصدر في ممارسة المسؤوليات متفجر الحيوية في أنشطته الثقافية، كاتبًا وخطيبًا، وصحافيًا وأستاذًا وإمامًا" (16).
وتميز الإبراهيمي- أيضًا- بثقافة عصرية اكتشفتها شخصيًا عندما سألني في إحدى ليالي عام 1948 - وأنا بقسم الفلسفة في خاتمة تعليمي الثانوي- عن آخر درس تلقيته في علم النفس، فأخذ رأس الموضوع وشرح لي آراء وليم جامس ( William James) أحد مؤسسي المذهب العملي (البراجماتي)، وتحدث عن كثير من مفكري الغرب، ممن لم أكن سمعت بهم قبل ذلك اليوم مثل داروين ( darwin) وجون لوك ( john Locke) وجون ستيوارت ميل ( john s. mill) الخ. كما أوضح لي مساهمة العلماء المسلمين في كثير من الجوانب.
وتتجلى شخصية الإبراهيمي في موقفه من الوظيف وتركيزه على حرية العالم الديني والمثقف حتى يستطيع القيام بواجبه لأنه كان يرى أنه "لا توجد في الإسلام وظيفة أشرف قدرًا، وأرحب أفقًا وأثقل تبعة وأوثق عهدًا وأعظم أجرًا عند الله من وظيفة العالم