ولا أدلّ على ظلم الاستعمار الفرنسي بالذات من جمعه بين المتناقضات في تسلطه على الجزائر "حكومة لائكية في الظاهر مسيحية في الواقع، جمهورية على الورق، فردية في الحقيقة، تجمع يديها على دين المسلمين ودنياهم، وتتدخل حتى في كيفية دفن موتاهم" [ص:60].
وما ذلك كله إلا من وضع يدها على أوقاف المسلمين، وتعيين موظفين عملاء لها، تدير بهم شؤون المسلمين. لذلك لا نستغرب قسوة الخطاب الإبراهيمي وحدته في مخاطبة ووصف من كان عقبة في طريق تحرير أوقاف المسلمين، وخلاصهم من ربقة الاستعمار، ويركز الخطاب على "المفتي الحنفي" بالجزائر فيأتي الخطاب في شكل صاعقة. "ما زلنا نتتبع أخبار هذا الرجل منذ سنين، ونتوسم من حركاته أنه عامل نصب وخفض معًا، وأنه مهيأ من الحكومة لأن يكون "حلقة مفقودة" لقضية ما، في يوم ما" [ص:86] "وفي الإدارة الجزائرية العليا مطبخة- ليست كالمطابخ- تطبخ فيها الآراء والأفكار في كل ما دقّ وجلّ من شؤون المسلمين ...
وفي هذا المعمل صنع العاصمي [المفتي الحنفي] وامتحن فكشف الامتحان عن استيفاء الخصائص والصلاحيات للاستعمال، وأصبح موظفًا في إحدى هذه الوظائف وهي الإفتاء الحنفي بالجزائر، أي مفتي الجامع الحنفي بالجزائر، إذ لم يبق من الحنفية بالجزائر إلا جامع يحمل هذه النسبة ... وإن وجود وظيفة مفتي حنفي في الجزائر تزوير على المذهب الحنفي، وأين العاصمي ومَنْ جرى مجراه من فقه أبي حنيفة ودقائقه وقياسه؛! " [ص:88].
وينتهي الخطاب الإبراهيمي بعد هذه المقدمات العرفانية الفقهية في التعريض بقضية الاستعمار للدين الإسلامي في الجزائر، إلى هذه النتيجة الخطيرة: "إن نسبة الحنفي تشترك في بني حنيفة وأبي حنيفة، فلينظر العاصمي [المفتي الحنفى] أشبه النسبتين به ... وبنو حنيفة هم قوم مسيلمة الذين آووه ونصروه، ومن غرائب الشبه أن مسيلمة الحنفي كان تشويشًا على النبوة الحقة، وأن المفتي الحنفي كان تشويشًا على مطالب المسلمين الحقَّة" [ص:88].
إنها لبراعة في التخريج هذه التي يربط فيها بين قوم مسيلمة الكذاب في عصر إسلام النبوة وبين المفتي الحكومي العاصمي، في عصر إسلام الصحوة والفتوة .. وإن في ذلك لدلالة على سعة الثقافة العرفانية التي يتسم بها مؤلف "عيون البصائر" فيوظف مقولاتها في تاريخ الصراع الفكري والعقدي بين الظالمين والمظلومين.
إن هذه الثقافة الموسوعية العرفانية لدى الإمام الإبراهيمي، هي التي نجدها في امتداد القضية السالفة وهي قضية فصل الدين عن الحكومة أو فصل الحكومة عن الدين.
فمن العنوان ذاته يتخذ الخطاب الإبراهيمي مدخلًا للعرض والتحليل، فيأتي بتجليات عرفانية لا نعثر على مثلها في غير هذا الخطاب، يقول بهذا الخصوص: