قالوا له السلام قد علمنا فبين لهم كيفيتها وقال لهم والسلام كما قد علمتم، وقد كان علمهم كيفية السلام في التشهد وهي: ((السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته))، كما في حديث ابن مسعود الثابت في الصحيح. وبعد هذا لا يبقى وجه لتجويز حمل التسليم هنا على معنى الانقياد كما زعمه الجصاص وغيره، ويا لله من الجري وراء الاحتمالات، والغفلة عن التفسير النبوي الصحيح الثابت المأثور. وقوله تعالى: {تَسْلِيمًا}، مصدر مؤكد، والتأكيد بالصدر يكون لرفع احتمال المجاز كما في "قتلته قتلا" دفعا لتوهم المجاز عن الضرب الشديد، ويكون لتثبيت معنى الفعل من جهة الحدث ببيان أنه فرد كامل من نوعه لا نقص فيه كما في "أكرمت زيدا إكراماً" بمعنى أن الذي كان منك له هو إكرام لا شبهة فيه- والتأكيد هنا من هذا النوع- فإن المسلم على النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لا يكمل سلامه إلا إذا طابق قلبه ولسانه وجرى على مقتضاهما عمله، فلم تكن منه للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلا السلامة في دينه وكتابه وأمته، وهذا هو الذي يقال فيه أنه سلم تسليما.
ونظير هذا ما في الآية الأخرى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فيكون منهم الإنقياد التام لحكمه في الظاهر والباطن بلا أدنى شبهة في العقل ولا أدنى حزازة في القلب ولا أدنى توقف في العمل.
فقد أمرنا بالآيتين بالتسليم الكامل بمعنييه، ليكون هو الغاية التي نرمي إليها، ونسعى في تحصيلها، وحتى إذا أخطانا مرة أصبنا مرات وإذا انحرفنا رجعنا إلى الجادة من قريب ومن داوم على القصد أعين على الوصول {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. ومن لازم التوبة أتحف بالقبول، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.