خلوة معه أحتضنته، وأخذت تحدثه بعظائم الأمور التي يجدر به أن يقوم بها ذات يوم، وكانت لا تفتأ تقول له وهي تدلّله: "ينبغي لك أن تصير رجلا عظيما". وقد مكثت هذه الكلمة في نفس الطفل في حياة ونماء حتى أمست كالنار في رأس العلم.
ثم بدأت وحدته وهو في الكويت، فإنه وهو لا يزال ولداً، نما جسمه سريعا وسبق طوله سنه، وهو مع ذلك رفيع القامة، فجعل أولاد الناحية يسخرون منه ويهزأون منه ويهزأون به، وكان يستحي من طول قامته الذي جعله هدف الأنظار، وكان يخفض من رأسه حتى يبدو أقصر من حقيقته حين يمشي في شوارع الكويت، أو في غرف القصر المكتظة بالناس، وكان يؤلمه أن يكون شاذا في الوسط المحيط به، ولكن لم يجد سبيلا للتوفيق بينه وبين هذا الوسط، لأن اختلافه عنه لم يكن في مظهره وحده، ولقد غلبه القدر وخلق له قلقا واضطرابا.
ولكنه أدرك ذلك تدريجا بما لديه من شعور الشباب، وانبثت كبرياؤه في نفسه، وأخذ ينظر إلى ما فوق ذلك الوسط، وجاء إلى أبيه يقول له: "كيف تصبر على تحكم آل ابن رشيد في وطنك؟ أحمل عليهم وأجلهم عن ديارك فإنك أنت وحدك صاحب الحق في الرياض" ولنذكر هنا أنَّ ابن رشيد كان في ذلك الوقت أقوى عاهل في شبه جزيرة العرب، وكانت دولته تمتد من صحراء سوريا بادية الشام- حماه إلى الربع الخالي: وكانت جميع قبائل البدو ترتعش خوفا من قبضته الحديدية. فلا عجب بعد ذلك إذا رد عبد الرحمن وهو في سنه المتقدمة به، وفي منفاه وضعفه، مطلب ابنه على أنه خيال لا يمكن تحقيقه. وقد مضت أعوام على ذلك، وكانت عاطفة الإبن فيها أشد وأقوى من جمود الوالد. فرضخ عبد الرحمن في آخر الأمر واستعان بصديقه سلطان الكويت على جمع بعض قبائل بدوية باقية على الولاء له وخرج، كعادة العرب في الغزوة بالهجن والأعلام والبنادق، وهاجم