وأما المباعدة بين أسفارهم التي اقتضاها كفرهم بأنعم الله, فهي كناية عن محو العمران وخراب القرى التي كانت ظاهرة متقاربة حتى لا يبقى منها إلا القليل فيتباعد ذلك القليل بالطبع بخراب الكثير.
وأين العمران المتلاحم الذي يرتاح فيه المسافر لضبط المسافة وتعدد المشاهد من الخراب الذي يوحش فيزيد المسافة بعداً على بعد.
وملكة سبأ وعرشها العظيم وملكها وما قصه القرآن من نبئها أعظم وأروع فمخبر سليمان عليه السلام يقول عنها: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} وما وصف عرش ملكة سبأ بالعظيم عند سليمان نبي الله الذي سخر له الجن والريح - إلا وهو في نفسه عظيم.
أيها الإخوان:
إن في قصة ملكة سبأ في القرآن لدرساً تتفجر منه ينابيع العظة والعبرة وإرشاداً إلى ما تقوم به الأمم ولولا أن هذا الخطاب قد طال لآثرنا منها العبر وأثرنا بها العبر. ولكن لا يفوتنا أن نلخص منها إشارات وما عليكم بعد ذلك إلا أن تتدبروا الآية ففيها نظام الشورى صريحاً لا مواربة فيه وفيها أن بناء الأمم إنما يعتمد على القوة وقد تكون مؤنثة فلا بد أن يسندها بأس شديد. وفيها أن الملأ هم الأشراف وأهل الرأي وهم أعضاء المجالس الشورية ولعلهم كانوا بالانتخاب العرفي وهو نظام مدني ولعلهم كانوا بالانتخاب الطبيعي أو الوراثي وهو لا يكون إلا في الأمم التي شبت عن طوق البداوة.
ولعل كاتباً من كتابنا يتناول هذا البحث بحث الانتخاب في الإسلام ولئن استرشد القرآن في هذا الباب ليرشدنه.