إلى روح الشعر الحديث من حيث اعتماده العمق النفسي والفكري، فاخترت الثاني، لأن النوع الأول من الدراسة يحيل الشعر إلى وثائق، دون أن يركز البحث حول فكرة؟ أو أفكار - معينة، فيغدو أشبه شيء بالعرض التاريخي والوصف السطحي، لمظاهر، لا يعد الشعر أهم شواهدها أو وثائقها، وقد يكون المنهج الذي اخترته وثائقيا إلى حد، ولكنه متصل بحقيقة الشعر، لا بحقيقة التاريخ، ومحمله الفكري أعمق، والقدرة فيه على اكتشاف الفعاليات الفكرية والنفسية أرحب مجالا، ورغبة في تجنب " الوثائقية " المحض، وجدتني في الغالب - أقف عند النماذج التي أجدها ذات قيمة فنية في ذاتها إلى جانب ما قد يكون لها من قيمة " وثائقية "، وكل باحث يعرف أن الشعر حين يستخدم وثيقة يستوي فيه الجيد والرديء، بل كثيرا ما تكون النماذج الرديئة اكثر دلالة حين يستشهد بها، لأنها أكثر طواعية وأبعد عن " حذاقة " الفن ودقته. وقد كان هذا النهج الذي أخذت به نفسي، مصدرا لصعوبة جديدة، لا أعني بذل الوقت الطويل في الانتقاء، وأنما أعني الصعوبة التي تقف عائقا دون التبسيط المراد.
وقد كان من حسنات هذا المنهج أنه يمكن القارئ من إدراك " الركائز " الهامة في مواقف الشاعر، وفي شعره، ولكن من سيئاته أنه يحجب تطور هذا الشعر، كما يحجب التفاوت في مدى التطور، فهنا شعراء يؤخذون معا في نطاق واحد، دون إبراز شمولي للدور الحقيقي لكل شاعر، ولمكانته الصحيحة في تيار الشعر الحديث، كذلك كان في إخضاع هذا المنهج للإيجاز مأخذ آخر وهو الاكتفاء بذكر عدد محدود من الشعراء والإعراض عن ذكر آخرين، والشعراء العاصرين كثيرون، وإنتاجهم غزير، لهذا أجد أنه لا بد من القول بأن إغفال شاعر لا يعني عدم الاهتمام بشعره