وَقَدْ يَقُوْلُ لَهُمْ: «رُبَّ كِيْسٍ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمْ يَفْتَحْهُ - يَعْنِي: مِنَ العِلْمِ -» (?).
وقال أبو هريرة: «حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ فِي النَّاسِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ لَقُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ» (?).
وَكَانَ يَقُولُ: «لَوْ أَنْبَأْتُكُمْ بِكُلِّ مَا أَعْلَمُ لَرَمَانِي النَّاسُ بِالْخَرْقِ وَقَالُوا أَبُو هُرَيْرَةَ مَجْنُونٌ» (?). وفي رواية: «لَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِكُلِّ مَا فِي جَوْفِي لَرَمَيْتُمُونِي بِالْبَعْرِ». وَقَالَ الْحَسَنُ - رَوِاي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -: «صَدَقَ وَاللَّهِ .. لَوْ أَخْبَرَنَا أَنَّ بَيْتَ اللَّهِ يُهْدَمُ وَيُحْرَقُ مَا صَدَّقَهُ النَّاسُ» (4).
وفي رواية قال: «يَقُولُونَ أَكْثَرْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَنْ لَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَرَمَيْتُمُونِي بِالْقَشْعِ - يَعْنِي بِالْمَزَابِلِ - ثُمَّ مَا نَاظَرْتُمُونِي» (5).
وأبو هريرة في هذا لا يكتم علماً ينتفع به، ويشهد على ذلك قوله السابق «مَنْ كَتَمَ عِلْماً يُنْتَفَعُ بِهِ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ»، وهو الذي قال: «لَوْلاَ آيَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ» (?).
مِمَّا سبق يتبيَّنُ لنا أنَّ أبا هريرة قد بَثَّ في الناس وعاء مِمَّا سمع من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يبث الوعاء الآخر خوفاً من أنْ يُكَذِّبَهُ الناس، أو يرموه بالقشع، أو يتهموه بالجنون .. وإنَّ المرء ليتساءل عن ذلك الوعاء الذي يحفظه أبو هريرة، ولا يُحدِّثُ منه، فما هو ذلك العلم الذي لم يبثه أبو هريرة؟ وترى هل خَصَّهُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دون الأُمَّة بذلك؟ نفهم من حديث أبي هريرة أنَّ الرسول الكريم - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - حَمَّلَهُ نوعين من العلم، كل نوع لو كتبه إنسان لكان جراباً كبيراً،