من هذا يتبين أن الصورة الوديعة تمام الوداعة التى يرسمها النصارى للسيد المسيح ليست حقيقية، بل هى من مبالغاتهم التى اشتهروا بها. ولست أقول هذا حَطًّا من شأنه عليه السلام، فهو نبىٌّ كريم لا يكمل إيماننا نحن المسلمين إلا به، لكنى أريد أن أقول إن الطبيعة الإنسانية لا يمكن أن تتحمل السماحة والصبر إلى أبد الآبدين، ولا بد أن تأتى على أحلم الحلماء أوقات يضيق منه الصدر ويثور على المجرمين. كل ذلك رغم أن المسيح عليه السلام لم ينفق فى الدعوة ومخالطة الناس فى ميدانها إلا سنواتٍ ثلاثًا لا غير. بل إن النصارى، فى السِّيَر التى ألفوها عنه وأطلقوا عليها: "أناجيل"، قد نسبوا إليه بعض التصرفات التى أقلّ ما توصف به أنها تصرفات جافية تفتقر إلى اللياقة تجاه أمه عليها السلام: من ذلك أنه، بينما كان يعظ فى أحد البيوت ذات يوم، أُخْبِر أن أمه وإخوته بالخارج يريدون أن يَرَوْه ولا يستطيعون أن يصلوا إليه من الزحام، فما كان منه إلا أن أجابهم قائلا فى استنكار ونفور: "إن أمى وإخوتى هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" (لوقا/ 8/ 19 – 20)، وحين دعت له امرأة بأنْ "طُوبَى للبطن الذى حملك، وللثديين اللذين رضعتَهما" ردَّ فى جفاء: "بل طوبى لمن يسمع كلمة الله ويعمل بها" (لوقا/ 11/ 27– 28). وليس لهذا من معنى، فضلا عن الخشونة التى لا يصح سلوكها تجاه من حَمَلتْنا وربَّتْنا، إلا أنها لم تكن هى ولا إخوته ممن يسمعون كلمة الله ويعملون بها!

وفى مناسبة أخرى كان هو وأمه فى عرس فى قانا الجليل، وفرغت الخمر فنبهته إلى ذلك، فأجابها فى غلظة: "ما لى ولك يا امرأة؟ " (يوحنا/ 2/ 1 - 3). لكأن مؤلفى الأناجيل قد تعمدوا أن يشوهوا سيرته وصورته! لكننا بطبيعة الحال لا نصدّق بشىء من ذلك، فقرآننا يؤكد أنه عليه السلام كان بَرًّا بوالدته غاية البِرّ (مريم/ 32). على أن المسألة لا تنتهى هنا وحسب، بل إنهم ليصورونه، عقب مقتل النبى يحيى قريبه اللصيق، كما لو كان بلا قلب أو مشاعر، إذ نراه بعد علمه بمقتل هذا النبى الكريم تلك القِتْلة المأساوية المعروفة يأخذ أتباعه ويمضى بهم خارج المدينة ليمارسوا حياتهم ويأكلوا كما كانوا يفعلون من قبل، وكأن شيئا لم يقع (متى/ 14/ 12 وما بعدها، ومرقس/ 6/ 28 وما بعدها)، وهو ما يدل على تحجر الإحساس، أستغفر الله! كذلك كان سائرا ذات مرة فى الطريق فجاع، ورأى شجرة تين هناك، فدنا إليها لعله يجد فيها تينا يأكله، فلما لم يجد فيها ثمرا دعا عليها ألا تثمر إلى الأبد فلا يأكل أحد منها شيئا، فيبست التينة لوقتها، وكان هذا فى رأيه برهانا على قوة الإيمان (متى/ 21/ 19 وما بعدها، ومرقس/ 11/ 12 وما بعدها). وإن الإنسان ليتساءل: كيف يمكن أن يُعَدّ هذا برهانا على قوة الإيمان؟ وما ذنب التينة يا ترى؟ وما الفائدة التى تعود على الناس أو الحياة من اليبوسة التى أصابتها؟ ألم يكن هناك برهان آخر أكثر نفعًا ومعقوليةً يمكن أن يقوم به السيد المسيح الذى يضرب النصارى به الأمثال فى الحِلْم والوداعة؟ ثم إن هذا التصرف من السيد المسيح يناقض ما أراده من المثل الذى ضربه فى موقف آخر عن التينة، وخلاصته أن رجلا كانت له شجرة تين مغروسة فى كَرْمِهِ ظلت لا تثمر ثلاث سنين، فطلب من الكَرّام أن يقلعها ليستفيد من مساحة الأرض التى تشغلها، لكن الكرّام استسمحه أن يتركها هذه السنة أيضا على أن يقطعها العام القادم إذا لم تثمر، فأجابه صاحب الأرض إلى طِلْبته (لوقا/ 13/ 6– 9). ومغزى المثل أن الله يعطى الفرصة للعاصين مرة واثنتين وثلاثا قبل أن يأخذهم بذنوبهم. فلماذا لم يطبق المسيح عليه السلام هذا المبدأ مع التينة، التى ليس لها مع ذلك عقل الإنسان ولا إرادته؟ خلاصة القول إننا لو قارنّاه برسولنا الكريم، عليه وعلى ابن مريم السلام، لوجدنا أن النبى محمدا كان أحلم وأطول بالا وأوسع صدرا، وظل هكذا، لا ثلاث سنوات فقط مثله، بل ثلاثة وعشرين عاما!

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015