كان من نتائج الصراع بين الكنيسة والعلماء أن تحولت المعرفة إلى معرفة بشرية خالصة ومحصورة في الواقع المشاهد، فالمحسوس والمشاهد الذي يخضع للاستقراء والتجربة والقياس الكمي وحده العلم وماعداه – وكل ما لا يخضع للاستقراء والتجربة والقياس الكمي يعتبر لا علم وتعتبر قضاياه بلا معنى “ Meaning less” وهذه هي الروح العلمية التي بلورها بيكون حيث الاقتصار على ما هو موضوع أمامنا في العالم الواقعي التجريبي والإنصات لشهادة الحواس كمصدر للمعرفة، والطبيعة هي مملكة المعرفة ويجب الحيلولة دون أن يتجاوزها العقل، وعلى مدار العصر الحديث تبارى الفلاسفة الإنجليز في تأكيد التجريبية والنظرية الحسية في المعرفة والعزوف عن الميتافزيقيا. وبلغت الذروة مع جون لوك "1632 - 1704" الذي رفض الادعاء بوجود أفكار مفطورة في العقل البشري ترتكز عليها المذاهب العقلية المقابلة للتجربة. وأكّد لوك أنّ العقل يولد صفحة بيضاء ثم تخطها المعطيات الحسَّية والتجربة وهذا هو منطلق الفلسفة الوضعية “ Positivism” وأساسها المكين.

2 - العقل

تتلخص مصدرية العقل للمعرفة في القول بأنّ المعرفة البشرية قائمة على التصور والتصديق، فالتصور هو الإدراك البسيط لمعاني الأشياء كتصور معنى الحرارة والنور والتصديق هو الإدراك المنطوي على حكم كالحكم بأنّ النار محرقة. وهذا المذهب بدأ مع أفلاطون من خلال نظريته في التذكُّر التي تقوم على أساس أنّ التصورات كامنة في النفس البشرية وأنها تنبعث منها تباعاً فمصدرها النفس، ثم تطور القول بمصدرية العقل مع ديكارت، وخلاصة رأيه أنّ المبادئ الأولية تكمن في التصورات وأنّ هذه التصورات تمثَّل أفكاراً بسيطة " مطلقات المعرفة " وهي التي تتكون منها جميع العلوم بعد ذلك

إلا أن هذا الاتجاه الذي جعل العقل مصدراً للمعرفة قد بدأ يتلاشى نتيجة للنجاحات التي حققها المنهج التجريبي.

إنّ الدارس لكلام المذهبين الغربيين يلاحظ إبعاد الوحي نهائياً من مصادر المعرفة، مما يعني انحصار العلم في عالم الشهادة، الذي غدا المصدر الوحيد للمعرفة. نتيجة لانحصار الفلسفة الغربية في دراسة الواقع المحسوس أو عالم الشهادة، فقد تمركزت حول الذات الإنسانية والطبيعية، وأدى هذا إلى تأليه الإنسان والطبيعة حيث الإيمان العميق بالعالم الطبيعي على أنّه العالم الوحيد الذي يسعد فيه الإنسان ويجد فيه مطالبه ويلبي حاجياته المادية والروحية، والإيمان العميق بالإنسان على أنه مركز الثقل في العالم، والإيمان بالعقل وحده على أنّه الوسيلة الوحيدة التي تضمن السيطرة على العالم وتسخير إمكاناته بالاعتماد على العلم.

ب- مصادر المعرفة: في نظرية المعرفة الإسلامية:

مصادر المعرفة لدى علماء المسلمين تنحصر في الوحي والعقل والحس غير أنّ ثمة انتقادات وجِّهت لمصدرية العقل للمعرفة؛ وذلك لأنّ العقل والحواس هي وسائل إدراك للكون المحسوس، وعلى هذا يغدو الكون هو مصدر المعرفة الثاني بالإضافة إلى الوحي. وهذا ما تنبه إليه المعاصرون حيث اتفقت رؤيتهم مع الرؤية القرآنية؛ وذلك بجعلهم للوحي والكون مصدرين متناصرين للمعرفة. وبذلك يمكننا القول أنّ مصادر المعرفة في النظرية الإسلامية تنحصر في مصدرين هما: الوحي والكون.

1 - الوحي

حيث أنّ الوحي:

أ - يمدنا بالمعارف اليقينية حول ما وراء هذا الوجود وما يتجاوز أبعاد الزمان والمكان، فالمعلومات التي يقدَّمها الوحي صادقة ويقينية، والمصادر الأخرى مهما كانت فائدتها فهي ليست مصادر يقينية ولا يمكن أن تقدَّم إجابات واضحة ودقيقة للتساؤلات المطروحة.

ب - كما يمدنا الوحي بمعارف يقينية حول كليات السنن الإلهية السارية في هذا الوجود خصوصاً ما اتصل منها بالإنسان المكرَّم المستهدف بهداية الوحي.

ج- ويستوعب الوحي في تفصيلاته حقيقة الإنسان في أصله وخلقه وتكوينه وحركته على الأرض ومصيره المستقبلي.

2 - الكون

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015