قال الإمام الطبري - رحمه الله -:

"القَول في تأويل قوله تعالى: {اهبِطوا مِصْرًا فإن لَكم ما سألتم} وتأويل ذلك: فدعا موسى فاستجبنا لَه , فَقلنا لَهم: اهبطوا مصر. وهو من المحذوف الذي اجتزئ بدلالة ظَاهره علَى ذكر ما حُذِفَ وتُرِكَ منه" والله تعالى أعلم

أحمد الله عزّ و جَلّ، و أشكر الأخوين العزيزين (مجاهد الشهري)، و (أبا صفوت) على ما ذكروه و كتبوه، جزاهما الله خيرا و جزاكم جميعا

و ما ذكره الإمام ابن كثير من عدم إجابة ما سأله قوم موسى - عليه السلام – مغايراً لما ذهب إليه الإمام ابن جرير من إجابتهم لما سألوه، هو من قبيل اختلاف الآراء فيما يحتمله النَص، و لم يَرِد فيه ما يرفع أو يدفع أحد الاحتمالين.

و قد استند ابن كثير فيما ذهب إليه من عدم إجابتهم لما سألوه، إلى ما دَلّ عليه النَص - عقب سؤالهم هذا - مِن تقريع و توبيخ موسى عليه السلام لهم، فيما طلبوه مِن البَقل و القثاء و الفوم و العدس و البصل بدلاٍ من العسَل و الطَير " المَنّ السلوى "؛ قال رحمه الله: (وقوله تعالى: {قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} فيه تقريعٌ لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنية مع ما هم فيه من العيش الرغيد، والطعام الهنيء الطيب النافع). أهـ

و هو معنى ما ذكره الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره؛ قال: (القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}

يعني بقوله: (قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)، قال: لهم موسى: أتأخذون الذي هو أخس خطراً وقيمة وقدرا من العيش، بدلاً بالذي هو خير منه خطرا وقيمة وقدرا؟ وذلك كان استبدالهم). أهـ

- و لأجل ذلك التقريع و التوبيخ ذهب ابن كثير إلى القول بعدم إجابتهم لِما سألوه مما استحقوا عليه ذلك الإنكار، و هو مذهبٌ جيّد مُتسِق و مُتماسك مع دلالة النَص، و القول بإجابتهم لِما طلبوه مع الإنكار عليهم فيه بُعْد.

قال ابن كثير رحمه الله: ( .... والمعنى على ذلك لأن موسى عليه السلام يقول لهم: هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز، بل هو كثير في أي بلد دخلتموه وجدتموه، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه؛ ولهذا قال: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم} أي: ما طلبتم، ولَمّا كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه، لم يجابوا إليه، والله أعلم). أهـ

و لذا كان القول بعدم إجابة قوم موسى لما سألوه و طلبوه، أقرب لدلالة الإنكار من القول بإجابتهم إليه.

* * *

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61]

و ربما يشكل على القول بعدم إجابتهم لِما سألوه،ُ ما جاء - عقب التقريع لهم - من قوله تعالى: {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61]، و جوابه أن القول الكريم: {فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} ليس على ظاهره، ويحتمل إضمار الشرط؛ أي: إن تهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم؛ قال أبو حيان الأندلسي في تفسيره " البحر المحيط ": ({اهْبِطُوا مِصْرًا}: في الكلام حذف على تقدير أن القائل: {أَتَسْتَبْدِلُونَ} هو موسى، وتقدير المحذوف، فدعا موسى ربه فأجابه، {قَالَ اهْبِطُوا}. وتقدّم معنى الهبوط، ويقال: هبط الوادي: حل به، وهبط منه: خرج .......

{فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ}: هذه الجملة جواب للأمر، كما يجاب بالفعل المجزوم، ويجري فيه الخلاف الجاري فيه: هل ضمن اهبطوا مصراً معنى أن تهبطوا أو أضمر الشرط؟ وفعله بعد فعل الأمر، كأنه قال: إن تهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم،

وفي ذلك محذوفان: أحدهما: ما يربط هذه الجملة بما قبلها، وتقديره: فإن لكم فيها ما سألتم. والثاني: الضمير العائد على ما، تقديره: ما سألتموه، وشروط جواز الحذف فيه موجودة ........ والمعنى: ما سألتم من البقول والحبوب التي اخترتموها على المن والسلوى. وقيل: ما سألتم من اتكالكم على تدبير أنفسكم في مصالح معاشكم وأحوال أقواتكم). انتهى كلامه هنا

* * *

و ذهب الإمام القرطبي في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن " إلى نحو ما ذهب إليه الإمام ابن كثير؛ قال: (قوله تعالى: (اهبطو مصرا) تقدم معنى الهبوط، وهذا أمر معناه التعجيز، كقوله تعالى: " قل كونوا حجارة أو حديدا " [الاسراء: 50] لانهم كانوا في التيه وهذا عقوبة لهم.

وقيل: إنهم أعطوا ما طلبوه). أهـ.

و يحتمل أن يكون معنى ذلك الأمر: الزجْر و التهديد بالهبوط إلى مصر التي خرجوا منها، و التذكير بما كانوا يلاقونه فيها من الذلّ و الذبح و الاستعباد – إن أرادوا الإجابة لِما طلبوه؛ فإن لهم فيها ما سألوه.

و الخلاصة أن ما ذكره الإمامان ابن كثير و ابن جرير الطبري من إجابة قوم موسى لسؤلهم أو عدم إجابتهم لما طلبوه، هو اختلاف آراء، يحتمله النصّ، و لكلٍّ سنده و دليله

و ما هذا سبيله فلا يصلح أن يكون محلاً جيداً للاستدراك.

و الله أعلم

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015