ولقد ظهر سيدنا موسى - ومعه فتاه يوشع بن نون - فى بداية القصة، أما الخضر فقد ظهر بعد ذلك، حيث أخذ مكان البطولة جميعاً، وفى ذلك دلالة على أن هذه القصة من القصص التى تظهر فيه الشخصيات شيئاً فشيئاً بتتابع.

ويسترعى انتباهنا: أن القرآن الكريم لم يذكر أسماء الشخصيات الواردة فى القصة - باستثناء موسى عليه السلام - وهذه ميزة كبرى من مزايا القص القرآنى، فإن أهم شئ هو العبرة والمغزى مهما اختلفت وتنوعت الشخصيات، ومن هنا نستخلص أن القرآن الكريم قد سبق إلى ذلك اللون القصصى المسمى عند النقاد المعاصرين (بالقصة ذات التوجيه المعنوى) وهى التى تتركز حول مغزى معين، وتعرض بالقدر الذى يبلغ هذا المغزى، ويغفل فيها تحديد شخصيات الأبطال. كذلك تعد من قصص الكفاح المنتهية بتحقيق الآمال، إذ انتهت رحلة موسى الشاقة بلقاء الخضر والتلمذة على يديه ([7]).

ويلحظ الدارس للقصة أنها لم تحدد التاريخ الذى وقعت فيه أحداثها، من حياة سيدنا موسى عليه السلام: هل كان ذلك وهو فى مصر قبل خروجه ببنى إسرائيل، أم كان ذلك بعد خروجه بهم عنها؟ ومتى هذا الخروج قبل أن يذهب بهم إلى الأرض المقدسة أم بعد ما ذهب بهم إليها، فوقفوا حيالها

لا يدخلون، لأن فيها قوماً جبارين؟ أم بعد ذهابهم فى التيه مفرقين مبددين؟

كذلك يلحظ الدارس أن القصة لم تحدد المكان الذى وقعت فيه أحداثها إلا بأنه (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) وبأن (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) هذا عند الصخرة التى أوى إليها موسى وفتاه، واتخذ عندها الحوت سبيله فى البحر سربا. ولكن أين كانت الصخرة هذه؟ وأين كان مجمع البحرين ذاك؟ لا ندرى.

ومعنى هذا: أن القرآن الكريم قد حدد مكان هذه القصة ولم يحددها، لحكمة خاصة تستوجب أن نقف عند نصوص القصة كما وردت فى كتاب الله عز وجل، ولا نقلد أولئك الذين راحوا يتفننون فى النص على هذا المكان، فزعم بعضهم أنه ملتقى بحر فارس مما يلى المشرق وبحر الروم مما يلى المغرب، وزعم آخرون أنه فى أقصى بلاد المغرب عند طنجة ([8]) ... ألخ.

فكل هذه المزاعم وأمثالها من باب الحدس والتخمين، فضلاً عما بينها من تناقض وتضارب، وفضلاً عن أنها تصرفنا عما فى لفظة (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) من معنى إشارى كريم زائد عن المعنى الأصلى لها، فهى تشير إلى حقيقة العبد الذى جمع الله فيه بحر الحقيقة - وهو الملح الأجاج الذى لم يقو على الشرب منه أحد إلا إذا تصفى من ملحه، أو مزج بماء النهر العذب الفرات، وهو الشريعة السائغة لجميع الناس، والتى لم يختلف عليها أحد لملاءمتها للعقل والعادة والعرف. والعبد الكامل قد مزج الله له البحرين، ليتناول منهما ما يحيى به كل الحقائق التى خلق منها، من جسم وحس، وعقل وروح، وهذا العبد الصالح يعطى من شرابه هذا من كان على شاكلته، ومن كان يريد الحياة الكاملة لجميع قواه ومعالمه ([9]). ولعل مما يؤكد هذا التفسير أن البحرين لا يذكران فى القرآن إلا بهذا المعنى، أى أحدهما عذب فرات، والآخر ملح أجاج. قال تعالى: (وهو الذى مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج ... ) الفرقان: 53.

ومهما يكن من أمر هذا المكان، فإن القصة قد اكتفت بالإشارة فى مطلعها إلى أن سيدنا موسى عليه السلام قد قرر أمراً مفاجئاً حين قال لفتاه: أنه سيمضى حقباً ومسافات حتى يصل إلى هذا المكان المسمى (بمجمع البحرين).

ونلحظ أن القصة لم تذكر لنا فى البدء سوى هذا، ثم نفاجأ بعد سطور من بدئها أن (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) هذا كائن عند الصخرة. كذلك نلحظ أن القصة لم تذكر لنا فى البدء سر ذهاب موسى إلى (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) وإصراره على الوصول إليه، لكننا نفاجأ - بعد سطور من بدئها كذلك - بهذا السر، حين يلتقى موسى بالخضر، ويطلب منه أن يتبعه ليتعلم منه مما علمه الله رشدا.

فإذا كان النقاد اليوم يقولون: (إن عنصر المفاجأة فى القصة هو مصدر الجاذبية والتشويق) فها هو ذا القرآن الكريم يسبقهم إلى العناية التامة بهذا العنصر، فنحن نجد من تأملنا للجو الخارجى والداخلى لهذه القصة أن هذا العنصر يشيع فيها شيوعاً يكاد يكون تاماً، حتى لتحوطها المفاجآت من مطلعها إلى نهايتها، بل إن المفاجأة قد أعلنت عن نفسها قبل أن يلتقى التلميذ والأستاذ لأن موسى فوجئ بأنه - وهو كليم الله - لا يبلغ مبلغ بشر سواه فى العلم والمعرفة والاستبصار.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015